«ظلام قاعات السينما خَيّم على مدينة غوتنبرغ» عنوان معبر كتبه أحد محرري الصحف السويدية لمناسبة بدأ أعمال الدورة ال34 لمهرجان غوتنبرغ السينمائي العالمي. ظلام شتاء الشمال الأوروبي مألوف عند أهله، ولكن ثمة ظلام أخر يسود المدينة هذه الأيام مختلف، فيه سحر وغموض، يذهب إليه الناس بإرادتهم بحثاً عن متعة في داخله اسمها... السينما. وكعادتهم حجز أهل المدينة تذاكر دخولهم وتابعوا تفاصيل مهرجانهم، دون التفات إلى الجو وقساوته، إلا ضيوفهم فأكثريتهم كانوا يستغربون إقبالهم الشديد على مشاهدة الأفلام، في طقس تصل فيه درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر المئوي بكثير، كما هي الحال مع المخرج العراقي محمد الدراجي الذي دُعي للمشاركة، ولم يصدق... «أن يأتي هذا العدد الكبير من الناس لمشاهدة «إبن بابل» في وقت متأخر من الليل وفي مثل هذه الدرجة من البرودة!». شعبيته وتكريسه كمهرجان متخصص، تقريباً، بسينما دول الشمال، سمحت لمنظمي مهرجان «غوتنبرغ» التفكير بحرية أكبر للبحث عن ثيمات جديدة والانفتاح أكثر على سينمات خارج المنطقة لإرساء عالميته. فالمهرجان، ورغم طابعه الجغرافي، أراد له منظموه، أن يكون شمالياً وعالمياً في آن. وبرنامج دورة هذا العام (28/1 إلى 7/2) سعى لعكس هذا التوجه من خلال توسيع فقراته العالمية والحرص على تميزه الاسكندنافي، وهو أمر لخصه فيلم الإنتاج «ملك جزيرة الشيطان» إلى حد كبير. فهو نرويجي، سويدي مشترك لعب فيه الممثل السويدي ستيلان سكارسغورد دور مدير إصلاحية نرويجية للشباب شيدت في جزيرة الشيطان النائية في بحر الشمال أوائل القرن الماضي، وحاول المخرج النرويجي ماريوس هولست إعادتنا إليها عبر حكاية عن مجموعة من المراهقين كانت تقضي فترة «تأهيلها» هناك، وكيف كانت المؤسسات النرويجية تعاملهم معاملة قاسية، لا إنسانية، كثيراً ما كانت تدفعهم إلى الانتقام من مسؤوليها، ليتورطوا في جرائم أكبر من تلك التي أرتكبوها على اليابسة. ورغم أجوائه القريبة من «أفلام السجون» فأن ما يضفي على هذا الفيلم تميزاً هو قصته الواقعية التي رواها أحد الناجين من مجزرة أرتكبت ضدهم بعد أن حاولوا الهروب من جزيرة الشيطان فواجهتهم شياطين البشر. فيما سعى منظموه عبر ثيمة الدورة الرئيسية وعنوانها «الحضور» إلى الجمع بين العالمي والإقليمي، برؤية وفهم فلسفي جديد كما أوضحت المديرة الفنية للمهرجان ماريتا كابلا «الكثير منا يلتقي أصدقاءه، اليوم، عبر الإنترنت، وأحياناً أكثر بكثير مما يلتقيهم في الواقع، فمفهوم «الوجود» لم يعد له نفس المعنى الفيزيائي الذي كان له سابقاً. لقد تغير هذا المفهوم بعد أن صار الحضور الافتراضي قائماً لدرجة يتمكن فيها الناس الانتقال من مكان إلى آخر، ومشاهدة الأحداث والتواصل معها عبر شبكات الإنترنت، والسينما نفسها لم تعد بعيدة من هذا المفهوم فهناك أفلام تنتج اليوم دون أن يكون صانعوها متواجدين، بالضرورة، في مكان تصويرها فيزيائياً وفيلم «دموع غزة» واحدة من الأمثلة التي تقدمها الدورة الحالية لمفهوم «الحضور في السينما». المخرجة النرويجية فيبكة لوكبيرغ أوضحت في مؤتمرها الصحافي الظروف التي أحاطت بإنتاج الفيلم. «عند وصولنا إلى حدود غزة واجهتنا مشكلة جدية تمثلت في منع السلطات العسكرية الإسرائيلية من دخولنا إليها. وبعد انتظار ومناقشات طويلة معهم لم نتوصل إلى حل، فقررنا الاتصال بمجموعة كانت تعمل لمصلحة التلفزيون النرويجي، نجحت في الدخول إلى المدينة المحاصرة، وطلبنا منهم التعاون معنا في إجراء بعض المقابلات وتصوير الأحداث من زوايا محددة كما طلبتها أنا منهم رغم وجودي خارج غزة. ومن بعد قمت بجمع ما صوروه وما توافر عندي من وثائق حية صورها الفلسطينيون، من أبناء غزة، بأنفسهم وقمت بمنتجتها ليخرج «دموع غزة» كما شاهدتموه الآن». مَشاهد الفيلم الصادمة أثارت تعاطف الجمهور معه وقدم جزءاً من عذابات الفلسطينيين خلال حرب غزة الأخيرة موثقة كما هي. ومن عالمنا العربي وعنه عرض المهرجان أفلاماً توزعت بين خانات كثيرة، ف «رصاصة طائشة» للبناني جورج هاشم عرض ضمن فئة «فيلم أول»، و «إبن بابل» أحتوته موضوعة الدورة المستحدثة «عشر سنوات بعد 11 سبتمبر» التي شاهدنا فيها فيلماً مهماً للمخرجة البوسنية ياسمين دوراكوفيتش بعنوان «أغنية لكريم» مست فيه بشكل غير مباشر الحرب في العراق عبر رصدها لمجموعة من البوسنيين يعملون في مجال انتزاع وتعطيل الألغام المزروعة في أراضيهم، أثناء ما عرف بحرب البلقان. وبسبب من مخاطر مهنتهم وقلة ما يحصلون عليه مقابلاً لها، فكر بعضهم وتخلصاً مما هم فيه الذهاب إلى العراق والعمل مع الأميركان هناك في ذات الاختصاص، لكن قراراً مثل هذا كان يصطدم باعتبارات كثيرة منها: الموقف من الحرب في العراق وجوانب إنسانية أخرى، تركت أثرها على قرار كل واحد منهم. فيما عرض فيلم جوليا باشا «بدروس» ضمن خانة «الوثائقي». ومع قلة الأفلام العربية المشاركة إلا أن توزيعها يعكس حضوراً قوياً لها، ففي تظاهرة «الماسترو» اختير المخرجان عبد اللطيف كشيش وفيلمه «فينوس سوداء» ورشيد بوشارب وعمله الأخير «خارج عن القانون» ليكونا إلى جانب كياروستمي وأوليفر أساياس والياباني ترون آن هونغ والبولندي جيرزي سكوليموفيسكي وفيلمه « قتل أساسي» الذي حصل بطله فنسنيت غالو على جائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية الأخير، ولعب فيه دور أسير من مقاتلي القاعدة اسمه محمد يهرب، أثناء نقله إلى قاعدة أميركية سرية في بولندا، إلى أعماق الغابة الواسعة ليموت فيها بصمت بعد أن قتل الكثيرين. فيلم مؤثر عن القتل في كلا الجانبين والفعل الغريزي للتشبث بالحياة. فيما اختار النقاد في أسبوعهم الفيلم الوثائقي الجزائري «الحرب الخفية لجبهة التحرير الوطني في فرنسا» ليضفي موضوعه حيوية على فيلم بوشارب «خارج على القانون» لتناولهما وبأسلوبين سينمائيين مختلفين دور حركات التحرر الجزائرية وصراعاتها داخل الأراضي الفرنسية، كما تجلى في شريط مالك بنسماعيل حين راح ينقب في أرشيف دول أخرى غير الجزائروفرنسا فذهب إلى سويسرا وبريطانيا وبلجيكا وحصل على وثائق دعمت مادة فيلمه وسلطت الضوء على الحروب الخفية بين الجبهات الجزائرية وتنافسها على قيادة النضال الوطني وكيف أدى ذلك إلى مقتل الكثير من الجزائريين، إلى جانب تسليطه الضوء على تنظيماتها المسلحة وعمليات اغتيالها للقادة الفرنسيين، فاقترب بهذا كثيراً من فيلم بوشارب الذي أثار، أثناء عرضه في مهرجان كان مؤخراً، جدلاً حول أساليب الكفاح المسلح داخل فرنسا واختلاف زوايا النظر إليها. وسلطت الدورة ال34 الضوء بقوة على السينما الرومانية التي أختير منها أفلام غطت مراحل واسعة من إنتاجها السينمائي من بينها: أورورا» لكريستي بويو و»الثلثاء، بعد أعياد الميلاد» لرادو مونتيان، الذي ترك الحياة السياسية وتأثيرات حقبة تشاوشيسكو على البلاد جانباً ليستبدلها بقصة عاطفية جمعت رجلاً متزوجاً بشابة أختارها بدلاً عن زوجته وكيف تجمعت أطراف المثلث في بدايته لتنتهي في ما بعد بطريقة قريبة لما يحدث في الحياة نفسها. فيما صور ماريان كريسان في «مورغن» صعوبات الحياة في رومانيا وانسحاب تأثيراتها على الجارة هنغاريا. إلى هذا كرس المهرجان جزءاً من نشاطه للتضامن مع المخرج الإيراني جعفر بناهي، كما فعلت روتردام قبله، فعرض له بعض أفلامه، من بينها «تسلل»، مذكراً الجمهور أثناء تقديم كل فيلم بأنه مسجون في بلده وضرورة العمل على إطلاق سراحه.