لا يمكن المرء تقدير المسافة بين الجد والهزل في حديث مجلة فرنسية تصف بيان «الفن المنحط» الذي أصدرته جماعة «الفن والحرية» في مصر في العام 1938 بأنه «انتفاضة الشرق دفاعاً عن قيم الغرب!». فالبيان لا شك كان انتصاراً لقيم التجديد في الفن والأدب ضد النظم «الأوتوقراطية» التي تعزز المخاوف حول الهويات الوطنية. بدا ذلك في التضامن مع طليعة الفن الغربي «إيلوار، كاندينسكي، ماكس أرنست، بول كلي، وغيرهم» ضد الفاشية الأوروبية لا سيما في ألمانيا وإيطاليا. ولعل المواجهة التي خاضها الشاعر جورج حنين أحد أبرز أعضاء الجماعة مع مؤسس المستقبلية الإيطالية «فيليبو مارينيتي» بعد تحالف جماعته مع «موسيليني» تعد واحدة من أعلى تعبيرات رفض «حنين» وجماعته لتحالفات الحرب وصراعات الكلونيالية ونزعات رأس المال في السيطرة على المزيد من المستعمرات وتشريد المزيد من البشر. ويبدو أن العديد من تلك الإشكاليات سيظل مرتبطاً باستعادة الجماعة لألق حضورها بعد صدور الطبعة الثانية من مجلتها «التطور- 1940» التي أسسها الكاتب والمثقف الراحل «أنور كامل» والتي حررها وقدم لها الشاعر «هشام قشطة»، الذي سبق له أن قدم أولى طبعاتها في عام 1996. الطبعة الجديدة من مجلة «التطور» صدرت في مجلد شديد الفخامة والاتقان بالتعاون بين قطاع الفنون التشكيلية في مصر ومؤسسة الشارقة للفنون ودار إلياس للطباعة والنشر. وإلى جانب مقدمة الشاعر هشام قشطة سيتمكن قارئ المجلة من مطالعة مقدمة أخرى للكاتب «سمير غريب» صاحب كتاب «السريالية في مصر» أحد أهم مراجع تلك الحقبة إن لم يكن أهمها على الإطلاق. لم تكن الصرخة «الهوميرية» التي أطلقتها الجماعة باتجاه بحثها عن المستقبل غريبة على طليعة تنتصر للمستقبل ضد أساطير الماضي وضد أعداء الحرية وأثرياء الحرب ومنظِّري الفاشية. وعلى رغم أن الجماعة لم تعلن انتماءها الصريح للمذهب السريالي في العدد الأول من مجلتها، فإن قناعاتها كانت تلتقي السريالية في موقفها الجذري في الفن كما في الحياة. حيث كان ذلك يعني التحرر من قواعد الفن وتحطيم مقدساته مثلما فعل «لوتريامون ورامبو ومالارميه لا سيما في قصيدته رمية نرد». كان هذا يعني بالضرورة إيلاء أوقيانوس اللاشعور أهمية خاصة باعتباره فضاء لحرية نقية تعتمد على نفي وجود أية تناقضات في التجربة الإنسانية، ومن هنا تقاربت المسافة بين السريالية وبين فرويد حتى أن كثيرين كانوا يرونها تعبيراً مثالياً عن مقولاته الأساسية. ولا يمكن المرء أن يتفهم ذلك النفي المحموم من أعضاء الجماعة ومن المتعاطفين معها لفكرة تأثرها بالسريالية الفرنسية، التي تجاوزت حدودها الجغرافية منذ نشأتها بغض النظر عن مآلاتها، وبغض النظر أيضاً عن الشتائم التي كالها لها محافظون وغير محافظين. فالحقيقة أن المآخذ التي تم توجيهها لجماعة الفن والحرية لم تكن ترتبط بمدى تبعيتها للسريالية الفرنسية قدر ارتباطها بأطروحاتها المفارقة التي بدت نوعاً من التعالي على واقعها، على رغم أن معظم أعضاء الجماعة يؤمنون بالمنهج التاريخي «الماركسي» في تحليل الواقع. ولا شك أن مجلة التّطور كانت واحدة من أهم الأدوات التي أكدت معنى أعمق من فكرة «تشوش الحواس» وهو أن كتابات الجماعة كانت معنية بتقديم الخبرات بأكثر من عنايتها بتقديم النظريات. وربما كانت كثرة من مواد التطور تعكس غياباً مثيراً للنظرية مقابل الاستغراق في حيوية مرتبطة بالرغبة في صناعة حراك ثوري بدا نموذجاً متقدماً لمثالية شديدة السخاء، على رغم أن حلم الجماعة بتغيير الواقع بدا أحياناً كقفزة في هوة سحيقة بسبب تلك المبالغات التي لم تقم اعتباراً معقولاً لتلك الشياطين التي تسكن في المسافة بين نماذج حضارية متباينة بل ومتناقضة في الكثير من الأحايين. وحسبما تشير المجلة، التي صدر عددها الأول في كانون الثاني (يناير) 1940 وصدر عددها السابع والأخير في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، لم يكن ثمة اهتمام يذكر لدى أعضاء الجماعة بالإعلان عن انتماء سياسي أو جمالي محدد وإن تبلور في ما بعد موقفهم الجازم من الانحياز جمالياً للسريالية وسياسياً وفكرياً للتروتسكية، كتعبير عن تلك الفوضوية التي تعني بالنسبة إليهم الهدم المطلق ثم إعادة بناء الإنسان في فضاءات العقل الحر. سنجد العدد الأول وقد تصدرته مقولة مطلقة عن التطور تقول: «نحن نؤمن بالتطور الدائم والتغير المستمر. نحن نقاوم الأساطير والخرافات ونكافح القيم المتوارثة التي وضعت لاستغلال قوى الفرد في حياته المادية والروحية». هذا فضلاً عن تناثر عدد من الشعارات التي حددت توجهات المجلة في ما بعد، حيث: إنها مجلة تحارب الرجعية وتثور على القديم، تدافع عن حقوق الأفراد وتنادي بحق المرأة في الحرية والحياة. وسيلاحظ القارئ تحولات تلك الشعارات من كونها مقولات أخلاقية فضفاضة إلى كونها مقولات سياسية أكثر نضجاً ومن ثم أكثر تحديداً. وسنقرأ مثالاً في صدر العدد السابع والأخير: «أن قانوناً من القوانين الاجتماعية مهما كان رسوخه في مقاييس البشرية وأوضاعها لا بد أن يبقى في خطر دائم من اجتياح الثورة ما دام لم يُطعم بعناصر التطور الدائم والتغير المستمر». ولا شك في أن المصير الغامض للمجلة وتوقفها عن الصدور قبل أن تكمل عامها الأول يظل سبباً مثيراً ومحبطاً في آن، لكنه على الأرجح لا يرتبط بأسباب مالية، بل يرتبط بالحصار الرهيب الذي فرضته الأجهزة الرقابية على المجلة، وهو السبب الذي يرجحه الكاتب سمير غريب على غيره من الأسباب، لا سيما أن مؤسس المجلة الكاتب أنور كامل أكد في شهادة له عن المجلة أن حسن رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية استدعاه إلى مكتبه وطلب منه التخفف من المواد الخلافية حتى لا تضطر الحكومة إلى مصادرة المجلة وهو ما فعلته الرقابة بعد ذلك. وعلى رغم مرور أكثر من سبعين عاماً على ميلاد جماعة «الفن والحرية « يظل السؤال متجدداً حول قيمة ميراثها وحول الاختراقات التي حققتها، لا سيما أنها ولدت من رحم مجتمع باتريركي محافظ كان يعيش تحت وطأة الاحتلال ويعاني من تمزقات تعكس واقعاً محلياً معقداً، وهو أمر بدا مفارقاً ومثيراً. أما إثارته فتتأتي من صعود تلك النزعة الطليعية وسط ظلام العنعنة وسيطرة العقل الإقطاعي الذي عزز حضوره بالمزيد من التحالفات السياسية والدينية الرثة وغير الأخلاقية في أغلب الأحوال، وأما مفارقته فتأتي من تعاليه على واقعه. ولعل الملاحظات التي أبداها رمسيس يونان، أحد أبرز مثقفي الجماعة، ضد كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أصدره «طه حسين» عام 1938 تعكس شيئاً من تلك المفارقات. فقد كان مأخذ «يونان» على ذلك الكتاب هو عدم تعرضه للثقافة الجنسية في مدارسنا، هذا في الوقت الذي كانت المرأة المصرية تولد فلا تستطيع الخروج من مكمنها إلا متجهةً إلى القبر! ولا شك في أن أطروحات الجماعة مثلت اختراقاً حقيقياً في متن متكلس لكنها ظلت هامشاً وظِلاً لم يتبعه إلا قليلون، بينما استطاع المتن تطوير نفسه عبر ارتباطه اجتماعياً بدرجة معقولة من الخصوصية وسياسياً عبر ارتباطه بالمشروع الوطني الذي عززت حضوره قوة الدولة القومية. وفي النهاية، فإن أية ملاحظات على خطاب جماعة «الفن والحرية» لا تعني أبداً أننا نصدق أنها كانت نسخة محرفة من السوريالية الفرنسية، كما لا تعني أيضا أننا نصدق ما قاله «فالتر بنيامين» من أن السوريالية نفسها، هي آخر قطرات الانحطاط الفرنسي!