ظن العرب أن أسوأ ما يمكن أن يتعرّض له صغارهم هو فقر مدقع هنا أو تعليم متدنٍ أو تدخل من قبل الدولة فيما يرونه حقاً أصيلاً لتربية أبنائهم أو إنخراط العالم في توجيه دفة حقوق أطفالهم، التي يعتبرونها لا تناسب خصوصيتهم الثقافية الملتزمة أو تركيبتهم الدينية المنفصلة. وظن العالم أن أسوأ ما يمكن أن يطالعه عن المنطقة مقتل أطفال في حادث سير تعرّض له باص مدرسة، أو عمالة أطفال في ورش تصليح سيارات ومحلات بقالة، أو ختان بنات مصنّف تحت بند «تشوّه الأعضاء التناسلية»، أو زواج أطفال معرّف باعتباره تجارة بشر واستغلال صغار. لكن ما لم يعلمه الجميع أن الآتي كان أسوأ وأفظع وأبشع. فمن قتل وتشريد وتهجير واستغلال في الموصل، إلى كوليرا وقتل ومجاعة في اليمن، إلى تجنيد في صفوف «داعش» وتهجير في ليبيا، إلى قتل وتشريد واختطاف وتجنيد في سورية، واللائحة طويلة والمتسجدات خطيرة وضوء الحلول في نهاية النفق يكاد يكون معتماً. وسبب العتمة ينبع من الآثار النفسية طويلة المدى والحلول الفعلية غير المتوافرة لمن كانت حظوظهم في البقاء على قيد الحياة أوفر في البلدان المنكوبة. نكبة أطفال الموصل لم تنتهِ بإعلان تحريرها من «داعش»، وفق المدير الإقليمي ل «يونيسيف» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خيرت كابالاري، إذ يقول: «قد يكون العنف الأسوأ في الموصل قد انتهى، لكن معاناة الأطفال تستمر. لا نزال نعثر على أطفال في صدمة بالغة. بعضهم (الأطفال) لا يزالون بين الأنقاض أو مختبئين في أنفاق». وكانت تقارير «يونيسيف» أشارت إلى أن عائلات عدة اضطرت إلى التخلّي عن أطفالها والإستغناء عنهم. بعضهم الآخر فقد عائلاته أثناء الفرار بحثاً عن الأمان. وقد أجبر آلاف الأطفال على القتال أو القيام بأعمال أقل ما يمكن أن توصف بأنها «شديدة العنف». أطفال خدموا ك «دروع بشرية» للدواعش، آخرون جنّدوا في صفوف القتال، ومنهم من قتل أو فقد طفولته، ومنهم من ولد من دون هوية. يقول كابالاري: «حتى لو نجا الأطفال من الخطر المباشر، لا يعني هذا انتهاء مسلسل الرعب. فهم يتعرّضون للاعتقال وسوء المعاملة. كما يعيّرون بانتمائهم إلى فئات بعينها في ظل توتر كبير يسود المجتمعات المختلفة». ويضيف: «الأطفال الذين تُركوا وحدهم يحتاجون إلى دعمنا ليعثروا على عائلاتهم وإعادة جمع شملهم وإحاطتهم بالرعاية والحماية وحصولهم على الخدمات، بغض النظر عن أصولهم أو انتماءاتهم. ومثل كل الأطفال في العالم لأولئك الحق في الحماية، بما في ذلك الحصول على الوثائق القانونية. فالأطفال هم أطفال». الأطفال في الموصل هم الأطفال في الرقة، حيث إحدى أكثر المناطق التي تشهد عنفاً في الأراضي السورية (شمال شرقي). ووفق مصادر أممية، وصفت العائلات التي نجحت في الفرار من هناك الأوضاع بأنها مروّعة، ورحلة الهروب محفوفة بالأخطار حيث رصاص قناصة وألغام وغيرها. وكأن الحرب وحدها لا تكفي لترويع الأطفال وقتلهم واغتيال براءتهم، فقد انضم الكوليرا إلى لائحة المتربصين بالأطفال العرب. وتفيد منظمة الصحة العالمية بأن أكثر من 124 ألف حالة سجلت في اليمن، نصفها تقريباً من الأطفال، وأن سرعة انتشار الوباء تبعث على القلق. وتقول الدكتور ميريتشل ريلانيو ممثلة «يونيسيف» في اليمن، إن الأطفال يستمرون في دفع الثمن الأغلى للحرب في هذا البلد، مشيرة إلى أن كثراً ممن أصيبوا بينهم كانوا يعانون أصلاً سوء التغذية. يذكر أن عدد الوفيات الناجمة عن الكوليرا بلع نحو 923 وفاة منذ أواخر نيسان (أبريل) الماضي ربعهم من الأطفال. وتلفت فضيلة الشايب الناطقة باسم منظمة الصحة العالمية في جنيف، إلى أن أكثر من 99 في المئة ممن يصابون بالكوليرا يمكن أن يعالجوا في حال تمكنوا من الوصول إلى الخدمات الصحية، لكن هذا أمر بالغ الصعوبة في اليمن. وتضيف أن الوباء يهاجم الفئات الأكثر ضعفاً وهم الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة. ويزيد طين الأمطار بلة الكوليرا وسوء التغذية. فقد بدأ موسم الأمطار في اليمن وباتت البيئة المساعدة على انتقال العدوى أوفر وأخطر، ما يعني انضمام مزيد من أطفال إلى قوافل الموتى. وهذه القوافل تحوي كذلك أطفالاً ضحايا يسقطون بعد تجنيدهم في صفوف المقاتلين في ليبيا، إضافة إلى من يسقطون على هامش صراعات الجماعات المتناحرة. وعلى رغم من إيجابية القرار الذي أعلنه أخيراً المجلس المحلي لمدينة بني وليد والقاضي بتسريح الأطفال المرتبطين بالجماعات المسلّحة وإعادة تأهيلهم ودمجهم في مجتمعاتهم، إلا أن الظاهرة لا تزال تشكّل خطراً وتستقطب مزيداً من الأطفال الليبيين. واستقطاب شبيه تدور رحاه في جنوب السودان حيث إن كل طفل ذكر هو جندي في حرب طال أمدها. بعضهم يهرب من هذا المصير فيكون كمن هرب من المقلاة إلى النار. ممثل «يونيسيف» في السودان عبدالله فاضل يقول إن نسبة الإصابة بالإسهال المائي الذي يمكن أن يودي بحياة الأطفال زادت في شكل لافت. ويضيف أن عدد الحالات المبلّغ عنها في زيادة مطردة، لا سيما في ولاية النيل الأبيض حيث توجد غالبية اللاجئين الذين يعيشون في مخيمات من شأنها أن تزيد الأوضاع سوءاً. ويذكر فاضل أنه منذ مطلع العام الحالي استقبل السودان أكثر من 155 ألف لاجئ من مناطق الجنوب، بينهم حوالى 100 ألف طفل هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض. ويشدد كالاباري على أن الأوقات الحالية عصيبة بالنسبة إلى عدد كبير جدّاً من الأطفال في العراق وفي بلدان أخرى في المنطقة تضرّرت بسبب العنف، الذي يعرض حياة حوالى 27 مليون طفل في المنطقة العربية ومستقبلهم للخطر. وبينما يتساءل مسؤول يونيسيف «كيف يمكننا بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً وسط هذه الفظائع والمعاملة السيئة للأطفال؟ يقف طفل سوري دون التاسعة يبيع حلوى صنعتها والدته أمام إشارة مرور في القاهرة، وتجول طفلة عراقية لم تتعدَ عامها العاشر في شارع الحمراء في بيروت تستجدي أهل الخير وغيرهم من أطفال العرب الأوفر حظاً ممن بقوا على قيد الحياة. هؤلاء وحتى الأمس القريب، كانوا يخشون التسرّب من التعليم، أو الزواج المبكر، أو قلة الرعاية الصحية المتاحة. ويبدون اليوم محظوظين بالبقاء على قيد التسوّل أو التهجير أو التشريد.