في كل مناطق العراق ومدنه، يمكن تمييز «السنّة» مباشرة حيثما وجدوا: فهم هؤلاء المصابون باضطراب في موقعهم في الحياة العامة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ثمة عدم انسجام في أحاديثهم ونظراتهم، مصدرها الخشية العميقة التي تسكنهم من كل شيء. لا يتطابق حالهم مع الكرد والشيعة، الذين يستطيعون الاستناد إلى قوة عسكرية ومناطقية ومركزٍ سياسي يستطيعون اللجوء إليه في كل حين. كل سنّي عراقي يسأل نفسه حالياً سؤالاً بسيطاً: في أي مكان من العراق يمكن أن أعيش بطمأنينة معقولة! فمناطق المثلث السنّي شبه خالية، وخاضعة فعلياً لسلطة ميليشيات الحشد الشعبي، والجيش والقوى الأمنية التي لا تقل معاداة لهم عما يضمره الحشد الشعبي تجاههم. عدا عن أن تلك المناطق مدمرة في شكل فعلي، في بنيتها التحتية والاجتماعية، وليس ثمة أي أفق وطني أو إقليمي لمصالحة سياسية ما، يمكن أن تنعكس ايجاباً على الحياة العامة في تلك المنطقة. يدركون أيضاً بأنهم لا يستطيعون العودة للسكنِ في بغداد والمناطق الجنوبية من العراق. فحتى أبناء تلك المناطق يعيشون تحت ضغط هيمنة الميليشيات المسلحة على حياتهم بكل تفاصيلها، من اغتيالات وعمليات خطفٍ يومية، وتطبيق لقوانين ميليشيوية خاصة، تحت أعين مؤسسات الدولة العراقية، ومن دون قدرتها على لجم هذه الممارسات. فهذه الميليشيات في الكثير من الحالات والمناطق باتت أكبر من كل مؤسسات الدولة. والتنظيمات العصاباتية باتت تملك مؤسسات قضائية وأكاديميات عسكرية ورواتب ومخصصات من وزارة الدفاع والداخلية، وخوات تفرضها على الأعمال والنشاط الاقتصادي، وقبل كل شيء شرعية دستورية. أما الذين يعيشون منهم في إقليم كردستان العراق بأمانٍ معقول، فهم يستشعرون خطراً داهماً في التحولات التي يمكن أن تحدث في المستقبل القريب. فلو سار الإقليم في مسألة الاستقلال وتفاقمت الحساسية بين الإقليم والمركز، فإن ذلك سينعكس مباشرة على استقرارهم في الإقليم. هذا إذا لم تتفاقم الحساسية إلى اشكالٍ أخرى من الصراعٍ بين الطرفين. يضاعف من تراجيديا أحوال السنّة العراقيين راهناً، مركب مؤلف من انقسام نخبتهم السياسية، المنخرطة في صراعات مفتوحة في ما بينها، بينما لا تستطيع حتى عقد مؤتمر سياسي في العاصمة بغداد، والشخصيات الأبرز منهم منفية وملاحقة بتهم دعم الإرهاب، ولا تستطيع العودة إلى العراق. أما الطامحون الجدد الذين يسعون للاستحواذ على الزعامة السنّية في العراق، فمجرد أدوات بيد النخبة الشيعية الموالية لإيران. ضمن هذه اللوحة المأسوية، يظهر السنّة العراقيون وكأنهم يدفعون أثماناً مضاعفة لأربع ديناميكيات سياسية سادت العراق خلال العقد ونصف العقد الأخيرين. بدأت تلك الديناميكيات برفضهم الجذري للعملية السياسية وتبدل الواقع السياسي في العراق بعد العام 2003. صحيح أن السلطة المركبة وقتئذ كانت في جوهرها نتيجة لتقاسمٍ سياسي بين الشيعة والكرد وتهميش للسنّة، لكن الرفض المطلق من قطاعات واسعة من العرب السنّة للعملية السياسية في شكلٍ جذري، خصوصاً من المنخرطين السابقين في الجيش والمؤسسات الأمنية للنِظام السابق، ضاعف من تهميشهم وخلخل الحياة العامة الطبيعية في مناطقهم. كان لذلك الأمر نتائج كثيرة، على أن أكثرها سوءاً، كان فقدان مجتمع المثلث السنّي القدرة على ترتيب نخبة سياسية مركزية قادرة على تجاوز مرحلة صدام حسين، والتأقلم مع المرحلة الجديدة. الفاعل الثاني كان في استسلام السنّة العراقيين لبعض السياسات التي أوهمتهم بأن تحطيم المشروع الأميركي في العراق سيؤدي في شكل مباشر الى أن يعود العراق إلى ما كان عليه قبل الغزو الأميركي. فلعبة النِظام السوري في الاحتواء الموقت لعشرات آلاف الفارين من أعضاء النِظام العراقي السابق، ثم دفعهم في شكلٍ انتحاري لإشعال حلقة عنفٍ جنونية، حطمت مناطقهم وجعلتها رهينة في ثنائية الصراع بين العصابات المليشيوية والأجهزة الأمنية الطائفية. بهذا المعنى فإن المناطق السنّية والنسيج الاجتماعي فيها لم يتصدع لحظة احتلالها من «داعش»، بل عاش تصدعاً تصاعدياً منذ نهاية نِظام صدام حسين. كانت ثورات الربيع العربي ثالث التأثيرات التي أخلت بموقع العرب السنّة العراقيين. فقد مروا بتجربة شبيهة بالتي طاولت كرد تركيا. فهؤلاء لم يدركوا بأن قضيتهم لا يمكن أن تتطابق مع قضية السود في جنوب أفريقيا مثلاً، وإن كان ثمة تشابه في المستوى الرمزي والنضالي، لكنهم في النهاية مجرد أقلية سكانية في بلد توالي غالبيته النِظام السياسي الحاكم. السنّة العراقيون ساورهم هذا الوهم في شهور الربيع العربي، وحاولوا تقليد التجربة المصرية والتونسية، وحتى السورية في شكل جزئي. لكنهم اصطدموا بكونهم ليسوا أكثرية سكانية وسياسية، فهم يعيشون بين قوتين ديموغرافيتين وسياسيتين «وطنيتين»، لا يستطيعون مغالبتهما عبر ثورة شعبية خاصة في مناطقهم. لذلك ما لبثت أن تحولت انتفاضة العرب السنّة في عام الربيع العربي الأول لفوضى عارمة اجتاحت مناطقهم، وسلمت لحكم عصابات «المقاومة»، عبر غض نظر واضحٍ من مركز القرار الأمني والعسكري الحاكم، لتعيد تنفيذ منطق النِظام السوري. أخيراً فإن العرب السنّة يدفعون ثمن إهمال الاستراتيجية الأميركية لهم في العراق. من اندفاعة إدارة جورج بوش إلى انعزالية أوباما، وانتهاء بتخبط وضبابية الإدارة الراهنة. يدفع السنّة العراقيون أثماناً باهظة، قد تصل الى درجة تهميشهم في شكلٍ تام، سياسياً ومجتمعياً، لكنهم بالتأكيد لن يكونوا الوحيدين الذين سيدفعون أثمان هذه المحرقة التي تبتلع الجميع.