استطاع مسلسل «كلبش» بما حمله من جاذبية وتشويق أن يكون في مقدمة الأعمال الدرامية العربية التي عرضت خلال رمضان الفائت. والأكيد أنّ كثيرًا من ذلك النجاح ناتج من حيوية الحلول الإخراجية، اضافة الى الأداء المتميز لممثليه، وبالذات بطله أمير كرارة. يأتي المزج في موضوع العمل بين الواقعية الاجتماعية والحبكة البوليسية ليُمثّل سبباً إضافياً لهذا النجاح. ومن عادات النقد - وحتى من مألوف المشاهدة - استهجان أي خيوط بوليسية حين يتعلق الأمر بمعالجة قضايا ومشكلات اجتماعية واقعية. تفترض الرؤية الواقعية المألوفة ابتعاداً عن أي حبكة بوليسية يمكن أن تنال من صدقيتها ومن قوة ما تهدف اليه. ولكن في «كلبش» تنفتح الدراما على شبكة العلاقات الأخرى، الخفية والمتشعبة، التي تساند الشرّ وتجعله جبروتاً قادراً على مواجهة الخير ووأد مساره. دراما تعيش في قلب الحياة المصرية الراهنة وفي حمَى شراسة أبرز صفاتها، الدولة العميقة التي لا تظهر عادة في الواجهة ولا يراها الناس رؤية العين ولكنهم يشعرون بحضورها الغامض والملتبس والقادر كل مرّة على التدخل في «اللحظة المناسبة» لفرض حلوله على المجتمع بقوة وفي صورة حاسمة، ما يجعل الحديث عن التغيير السياسي لا يعدو أن يكون التباساً يخفى عن النظر أنه ليس سوى قشرة خارجية تطاول العناوين الكبرى ولكنها تعجز عن ملامسة التفاصيل الصغيرة والجزئيات الصغيرة التي تشكل الحياة كلها. في المشهد الدرامي تحتاج المعالجة الفنية ما يمنحها جمرة تصعيد تلك التفاصيل وتظهيرها على نحو تكتمل معه باعتبارها لحمة متكاملة تمتزج فيها منظومات متباعدة تختزن وجعاً يهبها سطوع حضوره على الشاشة الصغيرة على نحو مختلف يحمل بالضرورة وقعاً مختلفاً. يقتضي هذا النوع من الدراما حلولاً إخراجية سمتها الأبرز الحيوية والإيقاع السريع القادر على منح المشهد كثافة التعبير، وهو ما رأيناه في «كلبش» إذ تقوم الرواية التلفزيونية أساسًا على ما هو حادّ، جارح أو حتى استفزازي. فالمشاهد «القاسية» تخلق في سطوعها جاذبية اللغة الفنية على نحو يحقق حيوية الربط بين العوالم السياسية– الاجتماعية للأحداث وبين «صيغتها» البوليسية بما هي وعاء يجري تصعيده ليتجاوز كونه شكلاً فنياً ويصبح جزءاً حقيقياً من المضمون لا يمكنه الانفصال عنه. لا بد هنا من الإشارة الى نجاح العمل في تجاوز ما يمثله الاتكاء على مركزية الدور الرئيسي والارتفاع بالدور الى حد يجعله مفتاحًا منطقيًا وطبيعياً لقضايا وموضوعات كبرى. المسألة هنا تتفاعل في سياق العلاقة بين الفن كشكل ومضمون. فاللغة الفنية، التي نراها في المشاهد الداخلية، حملت شحنات قصوى من سخونة الدراما وارتفاع إيقاعها على نحو بالغ التشويق، خصوصًا في أداء أمير كرارة الذي جاء متفوقًا على كل أدواره السابقة. يُحقّق أمير كرارة في «كلبش» تناغماً جميلاً بين موهبته الكبيرة وبين فهمه العميق خفايا الدور وخيوطه الخلفية، وهو نجاح نعتقد أنه ارتكز في صورة أساسية على التفاعل الحيوي مع أداء عدد كبير من الممثلين، ما يضعنا من جديد أمام مسألة مهمة وهي إدارة الممثلين، بما هي انتباه لخيوط لا تحصى وتحمل حالات شخصية وإنسانية تحتاج الى تفعيلها وزجّها في السياق العام للعمل الدرامي. «كلبش» أحد أهم الأعمال الدرامية المصرية التي عرضت في دورة رمضان الفائت وحققت مشاهدة كثيفة عكست اهتمام المشاهدين بالدراما التي تحمل بعضًا من قضاياهم وهموم حياتهم وتمتلك في الوقت ذاته جمالياتها الفنية وجاذبيتها بنجاح وحيوية.