شهدت العاصمة البحرينية (المنامة) الأسبوع قبل الماضي نقاشاً صريحاً، حاول المشاركون فيه الإجابة عن أسئلة المخاوف والمستقبل، والإصلاح السياسي، والدفاع الذاتي، وما يعقب قرب استغناء أميركا عن نفط الخليج، ومخاوف تحالفها مع إيران، التي تقترب من عقد اتفاق مصالحة معها، يتخوف الخليجيون أن يكون «مقدمة نحو اتفاق آخر أشمل، يتجاوز الملف النووي». جاء ذلك في سياق سؤالين، جعلهما مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، موضع نقاش في مؤتمره الثاني ل«الأمن الوطني والإقليمي لدول مجلس التعاون.. رؤية من الداخل». وكان السؤال الأول يرتبط ب«الإصلاح السياسي داخل الدول الأعضاء لمجلس التعاون»، وتماشيه مع التطورات الداخلية التي أنتجتها حكومات هذه الدول بصورة إيجابية من تطور في التعليم والبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فيما يناقش السؤال الثاني الأكثر تشعباً ما إذا كانت «مهددات الأمن الوطني الخليجي تحتم الانتقال من التعاون إلى اتحاد (...) على غرار ما قامت به بعض المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي؟». وتحت هذا التساؤل، اجتهد المركز في فتح نوافذ كثيرة لأسئلة، رآها خبراؤه «مربط الفرس الخليجي» في الحقبة الراهنة، فعلى صعيد مبررات «الاتحاد»، أشار بالنقد إلى أن «الاستراتيجيات الدفاعية لدول مجلس التعاون لا تزال حتى هذه اللحظة جزءاً من الاستراتيجيات الغربية، ما يتعين معه ضرورة التفكير في صياغة استراتيجية خليجية مستقلة تتكامل مع تلك الاستراتيجية وتتلاقى معها، بما يحقق مفهوم القوة الموازنة لدول المجلس مع الدول الحليفة في مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي وأمن دول المجلس». وفي ما اتصل بأمن الإقليم، يصارح خبراء المركز الذين طرحوا الأسئلة جمهور المفكرين المدعوين، قبل أن يناقشوا المحاور بأن الخليجيين، على رغم ترحيبهم بالاتفاق الأميركي - الإيراني حول الملف النووي، إلا أن تلك الدول لديها «مخاوف من أن يكون ذلك الاتفاق مقدمة نحو اتفاق آخر شامل» يلمحون إلى أن مخاطره تزداد بسبب ما تشهده دول محورية بالنسبة للخليج، هي «العراق واليمن وسورية» من عدم استقرار يترك انعكاساً مباشراً على الخليج. غير أن الصراحة الأكبر جاءت عند تناول علاقة الأمن الخليجي بأمن التجمعات الدولية الكبرى مثل أميركا وأوروبا وروسيا والصين، فالخبراء الذين قرأوا ملامح «سياسة دفاعية جديدة لأميركا تجاه منطقة الشرق الأوسط» يرون في جهودها نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة نقطة تحتاج إلى درس بدائل، مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والهند والصين وروسيا، التي رصد الباحثون «تزايد اهتمامها بمنطقة الخليج». تلك المتغيرات قادت الباحثين إلى البحث في أسئلة ثلاثة «ما هي حدود التغيير المتوقع في الشراكة الاستراتيجية بين دول المجلس وأميركا؟ وكيف يمكن لدول المجلس الاستفادة من التنافس الدولي على منطقة الخليج العربي؟ ثم كيف يمكن لتلك الدول أن تطور آلية للأمن الذاتي في ظل الواقع الجديد؟ حاول المشاركون طرح رؤية مسعفة، فرئيس مجلس أمناء المركز مستشار ملك البحرين للشؤون الديبلوماسية الدكتور محمد عبدالغفار، أكد أنه «في زمن تغير التحالفات كنتيجة للمستجدات والأحداث الإقليمية والدولية، فإن دول مجلس التعاون في حاجة إلى صياغة استراتيجية مفهوم استراتيجي شامل على غرار ما يفعله حلف الناتو كل عشرة أعوام، وأن تكون ركيزتها بناء وتطوير سياسات حقيقية للدفاع المشترك قادرة على ردع التهديدات، والتعاون الخارجي ضمن مظلة خليجية واسعة لا تتبع بالضرورة الاستراتيجيات الدولية الكبرى، بل تتعاون معها». ويعتقد أن دول المجلس «قطعت شوطاً كبيراً في مجال تعزيز التعاون العسكري والأمني وفقاً لقمة الكويت 2009 وتعزيز العمل المشترك، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من الاتفاق على المفهوم الاستراتيجي الذي يضع إطاراً لتحديد القوة الموازنة والرادعة ضمن التفاعلات الإقليمية والدولية». زمن تفكك التحالفات! غير أن المشهد السياسي الراهن في رأي عبدالغفار يؤكد أنه «في زمن التحولات الكبرى تتأثر التحالفات الكبرى، وتبدأ في التفكك بعض أو جميع عرى الروابط التي نسجتها ظروف زمن مختلف». ولفت إلى أن المراحل الفاصلة في تاريخ الأمم تأتي نتيجة لتغيرات الأوضاع الراهنة وتؤثر في علاقات الدول، مستعرضاً ما ذكره مارك سايكس الذي يعد من أكثر المسؤولين في حزب المحافظين البريطاني معرفة بالشؤون التركية والذي ارتبط اسمه باتفاق «سايكس بيكو» في عام 1914 حينما قال: «إن انهيار الإمبراطورية العثمانية هو الخطوة الأولى لانهيار الإمبراطورية البريطانية». ويرى عبدالغفار أن مقولة سايكس لم تكن فكرة عابرة من قلق سياسي حريص على مصالح بلده، وإنما قناعة راسخة من الساسة البريطانيين الذين سبقوه لأجيال متعاقبة بأن الحفاظ على سلامة الإمبراطورية العثمانية أمر مهم كحاجز جيوسياسي لأمنها، لكن التغيرات الكبيرة بالحرب العالمية فرضت على بريطانيا أن تغير سياسة الحفاظ على سلامة الأراضي العثمانية على مدى 100 عام في مدة تقل عن 100 يوم! وفي شأن المنظومة الخليجية، يعتبر عبدالغفار أنه مهما حدث «فلا خيار أمام دول الخليج كتنظيم إقليمي متجانس في نضجه السياسي والتداخل المجتمعي وأواصر القربى سوى أن يعضد بعضه البعض، ولم يعد الانفصال أو الانسحاب من هذا الكيان ممكناً لفداحة خسائره الاستراتيجية التي لا تستطيع تحمل تبعاتها الدول المنضوية تحت المظلة الخليجية»، مشيراً إلى أن أي حوار مع العالم ينبغي أن يسبقه حوار مع الذات، يبدأ ب«درس وتحليل المعوقات التي تمنعنا من التقدم بهذا التنظيم الإقليمي». الانكشاف الاستراتيجي! من جانبه، أكد رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل، أهمية طرح مركز «دراسات» لتساؤلات من هذا القبيل «في ظل ما تشهده منطقتنا من انكشاف استراتيجي في أعلى مراحله على المستويين الوطني والإقليمي في الوقت الذي كان يجدر بنا بعد أكثر من 30 عاماً من تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن نكون وصلنا إلى أعلى درجات التنسيق والتعاون والوصول إلى مرحلة الاتحاد لضمان أمننا واستقرارنا ورفاهية شعوبنا في هذه المرحلة الصعبة». لكنه على رغم اعتقاده بخطورة ما سماه الانكشاف الاستراتيجي، إلا أن الخطر منه كما يقول: «ما يواجه دول الخليج اليوم من الشرخ الجديد في العلاقات الذي قد تتسلل منه إلينا تداعيات ما يشهده إقليمنا من توترات لا تأتي بالخير لدولنا ومجلسنا ولمستقبلنا الواحد». ويصف المرحلة التي تشهدها المنطقة بعد أربعة أعوام مما يسمى بالربيع العربي بأنها «مرحلة مخاض شديد (...) كشفت مدى هشاشة الأوضاع في كل المجالات في العالم العربي عموماً، وأن هذه الهشاشة مردها خطر كبير برز من السياسات التي كانت متبعة في مجالات التنمية كافة». أوضاع «الربيع» أهم ما كشفت عنه في تحليل الأمير تركي، أن «الأمن الوطني ليس عسكرياً فحسب لدرء المخاطر الخارجية، بل هو أمن سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وإعلامي، وأن الاعتماد على تثبيت القوة في الأمن الوطني ليس ضمانة كافية لتحقيقه، وعليه فإن الشرط الأول للحفاظ على أمن دول الخليج هو زيادة تحصين هذه الدول من الداخل بسياسات تحافظ على علاقات سوية بين القيادات والشعوب». ولا ينسى الأمير تركي «الاستقطاب» بين معضلات أفرزتها التحولات السياسية في المنطقة، «ظهور النزاعات المسيسة الدينية والطائفية والقبلية، أكبر تحد يواجه دول مجلس التعاون ويهدد أمنها الوطني، ما يعني أنها أمام واقع مفتوح على كل الاحتمالات، وتبعاً لذلك فإن على دولنا وشعوبنا أن تدرك خطورة هذه المخططات، وألا تسمح بالانزلاق إليها مهما كانت التحديات». وفي الشأن الإيراني، يقول الأمير تركي الفيصل: «إننا في هذا الجانب من الخليج نكن كل احترام ومحبة لإخوة لنا يقطنون الجانب الآخر من الخليج (...)، غير أن سلبية السياسة الإيرانية أساءت لدول الخليج، لاسيما أن كل المحاولات التي جرت خلال ال30 عاماً الماضية لترشيد سياستها باءت بالفشل، على رغم أن دول الخليج لا تكن أي عداء لإيران، ولا تريد لها أو لشعبها أي ضرر كجيران ومسلمين، ولكن الضرورة للحفاظ على أمننا تدفعنا إلى العمل على إيجاد توازن معها، بما في ذلك المعرفة النووية والاستعداد لأي احتمالات في الملف النووي الإيراني». 47 مليون نسمة! وفي شق الطيف السياسي المكون لدول الخليج، يركز نائب رئيس الوزراء السابق لدولة الكويت الشيخ محمد صباح الصباح على جانب «التركيبة السكانية» للخليج بوصفها خطراً محدقاً، ما يجعل «انتقال دول مجلس التعاون إلى تحالف كونفيديرالي، ويستوجب الانتقال من مرحلة الديبلوماسية إلى أشكال من السياسة الحقيقية التي تضع في الاعتبار المخاطر والمهددات الوجودية لكيان دول المنطقة وأمنها الداخلي (...)، ذلك أن المجلس بدأ قبل 3 عقود بإجمالي سكاني يقدر ب13 مليون نسمة، والآن وصل إلى 47 مليون نسمة، نصفهم غير مواطنين أو وافدون عرب وأجانب»، لافتاً إلى أن خللاً سكانياً كهذا يشكل تحدياً كبيراً في صياغة ونسج استراتيجية أمنية. ورأى أن الخلافات الخليجية تزداد خطورة في هذه المرحلة جراء «الخلل الكبير في التركيبة السكانية، التي يمثل الخلاف في ظلها تهديداً وجودياً لدول مجلس التعاون». وصارح الشيخ الصباح بأن التركيبة الطائفية مشكلة أخرى، بوصف الإيرانيين في نظره يعتبرون «أبناء الطائفة الشيعية في المنطقة التابعين لها، على رغم التصاق أبناء الطائفة بأوطانهم وأراضيهم (...)، ما يشكل تحدياً وخطراً قائماً أمام مخططي وصانعي السياسات في دول المنطقة». درس الحرب العالمية الأولى وأضاف: «ثمة درس مهم جداً نستخلصه من الحرب العالمية الأولى المدمرة، وهي أن الاحتماء بالخارج والاستقواء بالأجنبي والبحث عن قوى خارجية لدعم موقف محلي أمر في غاية الخطورة ونتائجه كارثية. في الحرب العالمية الأولى عندما استقوى قاتل ولي عهد الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية بالكنيسة الأرثوذكسية في موسكو في العام 1914 كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى «الشرسة والبشعة». أما الإسقاط الثاني للحرب العالمية الأولى على أمن الخليج بحسب الشيخ، فإنه يكمن في ضمان الأمن الخارجي، حينما أعلن الرئيس الأميركي آنذلك ويلسون عن مبادئه ال14 لبناء عالم جديد متحضر، مثيراً جدلية «حق تقرير المصير» مع الأوروبيين، والاستعاضة عنها بمفهوم «الانتداب» أو «الوصاية»، والتي نجم عنها لاحقاً اتفاق «سايكس بيكو» لتقسيم المنطقة العربية وفشل العرب في تدبير أمورهم. ولفت الصباح إلى أنه «من سخرية القدر أن تلك الحرب التي دمرت النظام العالمي القديم وأعادت صياغة نظام جديد وهيكليته لا حاجة لها وغير ضرورية البتة كما وصفها المحللون».