سلطت جائزة يوسف إدريس التي منحتها لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة في مصر للكاتب الشاب إيهاب عبدالحميد، الضوء على مجموعته القصصية «قميص هاواي» التي نالت الجائزة عن جدارة بعد أن وصفتها اللجنة في حيثياتها التي أعلنها مقررها خيري شلبي ب«التميز». ولفتت اللجنة الى اعتماد قصص المجموعة تراكم التفاصيل المرتبطة بحالة، أو بموقف أو بشخصية يسعي القاص إلى تصويرها، جاعلاً من ذلك التراكم وسيلة لإثارة مشاعر القارئ أو للكشف عن وجه غير مرئي من الوجوه الشخصية المحكي عنها. وبحسب اللجنة «تكشف المجموعة عن كاتب يدرك جيداً ما يود كتابته، وما ينبغي أن يتوقف عنده، وما يود إبرازه في أقل قدر من الكلمات، يحرص على تنويع التفاصيل من دون أن يفقد الخيط الأساسي، قابضاً على لحظته القصصية ببراعة شديدة، مع استخدام التنويعات السردية المختلفة، القادرة على خلق مشهدية بصرية صافية». وإيهاب عبدالحميد من مواليد عام 1977، قاص وروائي صدرت له من قبل رواية بعنوان «عشاق خائبون» وفازت بجائزة نجيب ساويرس للآداب عام 2007، إضافة إلى ترجمته لكتاب «قصة الجنس عبر التاريخ» للكاتب رى تاناهيل، وله مجموعة قصصية واحدة صدرت عن دار شرقيات بعنوان «بائعة الحزن» عام 1998. تتكون المجموعة الصادرة عن دار ميريت هذا العام من 9 قصص هي: العطش / موتو / قميص هاواي / الكاتبة / القاهرة / البنت الفقيرة والشامننبزي / حكاية أطفال / مؤتمر الكمة الأفريكية / مرعة البنات / مع كانجارو. والميزة اللافتة فيها تأتي من حرص صاحبها على أن تنتظم كلها حول سؤال رئيس عن «الحياة» ومعناها وأشكال التعامل معها. ومن ثم تتكرر فيها ثيمات أسلوبية وتقنيات سردية واضحة، لا تغيب عن فطنة القارئ، فغالبية القصص تدور في أجواء غرائبية، لكنها ليست تلك الأجواء التي يسهل ردها الى مناخات «الواقعية السحرية» على رغم أن الكاتب يرسم فيها، تفاصيل موغلة في واقعيتها إلا أنه يخرجها من هذا الإطار الواقعي الى عالم يقوم على الاصطدام بالغريب والمستحيل حدوثه، بحيث يجاوره ويتداخل فيه، على نحو يبدو فيه وكأنه يجسد مقولة مارتن جي الذي يرى أن «الغريب هو مجاز هذا العصر». يبدو عبد الحميد في قصصه وثيق الصلة بموروثه الأدبي القادم بامتياز من عالم «ألف ليلة وليلة». فنحن في مواجهة حكاية تتوالد منها حكايات لا تنتهي، كأنما هي نهر تتعدد روافده، لكن تجاور هذه الحكايات يشير الى ولعه بعالم بورخيس لا سيما «كتاب الرمل» حيث العوالم تتجاور وتطرح أسئلته المعمقة عن «الوجود» لتنتهي الى إيمان بأن العالم المألوف أمامنا هو ليس كذلك. يتشكك القارئ في واقعية ما يقرأه بداية من نموذج «البنت العبيطة» في قصة «عطش» وصولاً الى «الكانجارو» لكنه يقبل تلك النماذج ويتعايش معها، وكذلك يتأمل بشغف صورة الشحاذ العجوز الذي يطرق على أبواب السيارات في الليل ليوقظ سكان الشارع باعتباره مشهد «ما بعد واقعي». يستند عالم عبد الحميد الى جملة من العلامات التي تتكرر بانتظام في سرد ممتع سلس لا يقوم على مغامرات مع اللغة. ويلجأ الكاتب القادم من عالم الصحافة الى أبسط مستوياتها الدلالية، حتى وهو يرصد الهواجس التي تنتاب أبطاله، وتسمح باختلاط الواقع مع الأحلام، لا يلجأ الى «المجاز» أو موروثه البلاغي القائم على فيض التشبيهات، وقصصه كلها مكتوبة بضمير المتكلم وتكثف لحظات النشوة الناتجة من تعاطي مختلف أنواع المخدرات لتولد الشعور بأن العالم الذي تحكيه «أجمل من أن يكون حقيقياً». في كتابه «الفن والغرابة / ميريت 2010» يشير الناقد المصري شاكر عبد الحميد الى أن الاغتراب قد يؤدي الى حالة من حالات الإسقاط الذي ينطوي على نوع من التجسيد لأفكارنا وتصوراتنا وأفعالنا على شيء خارجي، شيء من خلاله نرى أنفسنا كما هو حال حائط دافنشي الذي يرى الفنان عليه أشكالاً وصوراً وكائنات يجسدها في أعماله بعد ذلك، وهنا يكون الحائط في البداية وسيلة نبتكرها ونغذيها ونطورها بالأفكار، وسيلة لا قيمة لها في ذاتها لكنها تصبح هدفاً ومحفزاً لا يستطيع الفنان العمل من خلاله كشأن كل المتعينات التي يلجأ إليها الفنانون كالموسيقى والمخدرات: «لذلك فأن لجوء الكاتب الى شخوص تتعاطي المخدرات لا يفهم إلا بوصفه فعلاً من أفعال الإسقاط يمكنه من رسم شخوصه الذين يعلن هوياتهم المهنية بوضوح وهم على حدود الجماعة، غير منخرطين في أية ممارسة فعلية تؤكد تلك الهوية، لأنهم يعانون الاستلاب والضياع الكاشف عن فقدان الإنسان لذاته في ظل تحكم خاص للسلطة المهيمنة (عطش) أو اغترابه عن ذاته بفعل الماكينة أو الآلية (مزرعة البنات / كينجارو) ليعاني ما أشار إليه ماركس في حديثه عن «الاغتراب الاقتصادي». وعلى نحو أو آخر يذكر لجوء إيهاب عبد الحميد المتعمد الى هذا العالم بما كتبه القاص المصري الراحل يحيي الطاهر عبد الله (1938 – 1981) في متوالياته القصصية الشجية «إسكافي المودة» التي كانت تروي ما يدور في حانة مخالي لتكشف ما فيها من «فانتازيا العنف القبيح» إذ يستخدم التقنيات السردية القائمة على لغة شفهية موحية. ويتطور تناول الكاتب لموضوع «استلاب» شخوصه من الاغتراب «المكاني» خصوصاً الى حالة يسميها عالم النفس «أثر التغريب» الذي نلحظه في قصة «الكاتبة» حيث يستعرض الراوي تجربته في كتابة تحقيق صحافي عن مجرم خطر وينتهي الأمر بعدم كتابة التحقيق والتعاطف مع بطله عوض الذي يحدث عن «زنا المحارم» الذي يعد ممارسة طبيعية في عائلته. ويتضاعف «أثر التغريب» في تناول الكاتب لنموذج مجرم آخر هو «موتو» وإجرامه لا هدف له سوى التحايل على الواقع لابتكار سبل للعيش، وليس سبلاً للمتعة مثل بطل قصة «قميص هاواي» الذي يفاخر بكونه «لا منتميا». وكما انتبهت لجنة تحكيم جائزة يوسف إدريس في حيثياتها فأن قصص إيهاب عبد الحميد فيها الكثير من الاحتجاج على أوضاع اقتصادية وسياسية قائمة كما في قصة «الكاتبة»، لكنه الاحتجاج القائم على إدراك التناقضات المجتمعية التي تكون نبرة السخرية سبيلاً وحيداً للتعاطي معها بألم يفاقم من أثرها ولا يغض الطرف عنها كما في قصة «عطش» الدالة بعنوانها الفياض والتي تعالج وضعاً فانتازياً قائماً على تفشي ظاهرة العطش مع انقطاع مياه النيل ونفاد كميات العصير التي يلجأ إليها البطل لمقاومة عطشه الدال على نزعة كافكاوية طاغية.