للحظات قليلة، وعندما كانت الكاميرا تصور في سكون لافت، الطيور والقصب والماء، بدت منطقة الاهوار العراقية، بعيدة كثيراً عن الحاضر العراقي الدامي. وكأن الحياة هناك عادت 30 عاماً الى وراء. ولم تهزها حروب ومخطط محكم للتدمير. لكن ما أن ارتفعت كاميرات فريق «بي بي سي» في الفضاء قليلاً في لقطات بانورامية واسعة، حتى انكشف الجانب الآخر من المشهد، اذ ظهرت المناطق الصحراوية الكبيرة التي تحاصر مناطق المياه الصغيرة، وبدت الأخيرة مثل واحات خضراء صغيرة، ضائعة في صحراء شاسعة شديدة الانبساط. لكن الصحراء العراقية الكبيرة ليست هي التي جذبت برنامج «طبيعة العالم» في حلقته الخاصة عن الاهوار العراقية والتي عرضت الاسبوع الماضي على قناة «بي بي سي» الثانية. فالحياة التي عادت الى قلب ما يسمى مناطق الاهوار العراقية، هي التي تستأثر هنا باهتمام فريق البرنامج البريطاني، والذي عمل لأشهر وسط ظروف امنية صعبة جداً، من اجل تسجيل عودة الطيور والحيوانات الى المنطقة وبعد جفاف استمر لأكثر من عقد ونصف من الزمن. ولأن موضوع الحلقة عن ارض السواد، اتجه الحديث سريعاً الى الماضي العراقي السياسي القريب، ليقدم البرنامج البريطاني معلومات تاريخية مهمة لفهم المهمة التي ينوي الاضطلاع بها بتعريف المشاهد بماضي الاهوار العراقية واهميته. فالاهوار تم تجفيفها من طريق خطة لنظام صدام حسين لوقف المعارضة المسلحة له والتي كانت تحتمي بالطبيعة الجغرافية الصعبة هناك. وبدل ان يفكر النظام السابق بأي امكانية سلمية او حلول اقل عنفاً لوقف المعارضة المسلحة وقتها، قرر إلغاء طريقة عيش وحضارة تعود الى آلاف من السنين، ليبدأ ومنذ مطلع عقد التسعينات خطة كبيرة لتجفيف الاهوار، والتي استغرقت بضع سنوات وانتهت بتجفيف ما يقارب 90 في المئة من المساحات المائية التي كانت عليها، وتهجير معظم سكان الاهوار العرب والذين كان يقدر عددهم بربع مليون شخص. ومع سقوط النظام العراقي في عام 2003، بدأت الجهود المتذبذبة لإعادة المياه الى الاهوار وإزالة العوائق التي وضعها النظام السابق، لتعود الحياة الى منطقة صغيرة فقط مما يعرف بقلب الاهوار. ولم تكن المياه فقط هي التي عادت الى الاهوار، فالحيوانات وبعضها نادر جداً، عاد وبطرق لم يستطع البرنامج وعلماؤه تفسيرها الى المناطق التي كان يعيش فيها. وبدأ ايضاً بعض سكان الاهوار بالعودة البطيئة الى قراهم. ويكشف البرنامج ان هناك الكثير من الظروف التي تمنع العودة السريعة للمياه لتشمل المناطق التي كانت تغطيها اصلاً والتي كانت تزيد من حجم دولة اوروبية مثل ويلز، منها انخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، بسبب السدود غير الشرعية في تركيا، والجفاف الذي يضرب المنطقة منذ سنوات، واهمال الحكومة العراقية لهذا الملف المهم. يخصص البرنامج البريطاني الكثير من وقته للحديث عن مصاعب التصوير في العراق حالياً. فالمصور والمخرج البريطانيا الجنسية استعانا بفريق امني تجاوز أفراده ثلاثين شخصاً، من اجل تصوير طير صغير بنى عشه بين قصبتين. هذا الوضع الغريب أثار فريق البرنامج وتذمره، واثر على المهمة التي انجزت وسط ظروف صعبة، بخاصة ان تصوير برامج الطبيعة يستلزم الكثير من الاستعدادات والهدوء الذي لم يتوافر ابداً مع وجود المسلحين واسلحتهم. يظهر البرنامج عراقيين «مختلفين»، عن صورة الضحية – الجلاد الشائعة عن ابناء البلد في السنوات الاخيرة. فالفريق العلمي العراقي غير الرسمي والذي يشرف على جانب من محاولات اعادة الحياة الى الاهوار ويديره العالم العراقي عزام الشوان، يشبه اي فريق علمي آخر في مكان آخر في العالم بشغفه بعمله وإخلاصه له. هي من المرات القليلة التي يتحدث خبراء وفنيون عرب للشاشات بكل تلك العاطفية والحب عن مياه، طيور، قصب وضفادع وجدت طريقها مجدداً الى مياه الاهوار العراقية.