رحم الله زماناً ندياً رخياً، كانت فيه حوّاء تخرج إلى المساجد وساحات العلماء، فتنافس الرجل في طلب العلم، لا بل صارت شيخةً للرجال في علوم الشرع والدين، تلقنهم مبادئ هذه العلوم الشريفة، وينهلون منها ما أفاء الله عليها من النفحات الزاكيات الزاهيات. ولعل آخر بنات حواء جلوساً في الجوامع الكبرى للإفتاء والتدريس كانت عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، فقد أفتت في الناس في رحاب الجامع الأزهر الشريف في الستينات من القرن الماضي، وفي جامع القرويين في المغرب بعد ذلك. أمّا حفيداتها الآن، فقد تم منعهن من التدريس في المساجد، بحجج واهية. فعن المرأة العالِمة والمحدّثة والشيخة والإمامة، يقول الشيخ المجدد/ محمد الغزالي (1917- 1996م) في كتابه «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل»، تحت عنوان «المرأة وخدمة السنة»: «علوم السنة من أهم علوم الشريعة، والصدارة فيها تحتاج إلى ذهن ناقد مستوعب حفيظ. وقد كنت أظن النساء آخر من يشتغل بهذه العلوم، بل أن يبرزن فيها، ويبلغن مرتبة الإمامة، حتى قرأت رسالة «السنة النبوية في القرن السادس الهجري» للدكتور محمود إبراهيم الديك، فوجدت عالمات بالسنة، لا يشق لهن غبار، ولسن نزراً يسيراً، بل عشرات من العالمات الثقات، ومنهن السيدة المسنِدة/ شهدة بنت الإبري الكاتبة، وكانت ذات دين وورع وعبادة، سمعت من العلماء الكثير، عاشت قريباً من مئة عام، وكانت مليحة الخط، لم يوجد في زمانها من يكتب مثلها». ويضيف الغزالي: «لا يهمني هنا أن أذكر أسماء الرجال الذين تلقت عنهم، وإنما يهمني أن أذكر بعض من تلقوا العلم عليها، ومنحتهم إجازة علمية بالرواية والتحديث. قالوا: سمع منها أبو سعد بن السمعاني، وروى عنها الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وهو المؤرخ المشهور، والموفق بن قدامة الفقيه الحنبلي الثقة، كما حدَّث أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي أنها من شيوخه». ومن المحدثات أيضاً، بلقيس بنت سليمان بن أحمد بن الوزير نظام الملك، ولدت في أصبهان سنة 517ه، وتوفيت سنة 592ه، سمع منها جماعة من العلماء، وحدَّث عنها يوسف بن خليل وغيره. استوقفني وأنا أقرأ في تراجم محدِّثي القرن السادس، أن أبا البركات البغدادي- من علماء السنة- كانت له أختان، إحداهما أمّ الحياء حفصة، وهي راوية موثقة دارسة، قال المنذري عنها: ولنا منها إجازة، كتبت عنها في شوال سنة 608ه. وهناك سيدة أخرى، «أم حبيبة الأصبهانية عائشة بنت الحافظ معمر بن الفاخر القرشية العبشمية»، قال عنها الحافظ المنذري في التكملة: حدّثت الناس، ولنا منها إجازة، كتبت بها إلينا من أصبهان في ذي القعدة سنة 606ه. إن هذا الإمام يذكر من دون تحرج أنه تلقى عن نساء فضليات، أجزنه، وأذِنَّ له بالتحديث. ويستطيع القارئ أن يقرأ أسماء عشرات في قرن واحد من أولئك العالمات البارعات في الدراسات الإنسانية. أما زينب بنت الشعرى، وتدعى حرّة (524- 615ه)، فقد قال عنها ابن خِلِّكان: لنا منها إجازة كتبتها سنة 610ه.». ويعلق الغزالي على كل هذه الشواهد والبراهين التي تملأ بطون كتب التراث دالةً على مكانة المرأة شيخةً وإمامةً: «يا عجباً، كبار المؤرخين والمحدّثين يذكرون بتواضع العلماء، وصدقهم أنهم أخذوا العلم عن نساء معروفات، وأنهم نالوا منهن شهادات تقدير وتكريم وثقة. ماذا حدث لأمتنا، فخلت الساحة من طالبات العلم وأساتذته، وجاءت قرون أمسى فيها ذهاب فتاة إلى مدرسة جريمة. بل خلت المساجد من العابدات، فأضحت صلاة المرأة في مسجد منكراً. وصار ذكر اسم المرأة، أمّاً كانت أو زوجة شيئاً إدّاً». ويقول الشيخ الغزالي: «أعود إلى تاريخنا في القرن السادس، لأقرأ فيه أن الحافظ أبا العلاء بن العطار- وكان إمام همدان في علوم الحديث والقراءات، والأدب والزهد، وحسن الأسلوب والتزام السنة- كانت له ابنة اسمها عاتكة بنت أبي العلاء، وكانت من المحدّثات المتقنات لعلوم السنة، قالوا: سمعت الكثير من أبي الوقت عبد الأول السنجري، وقدمت إلى بغداد من همدان، ودرست السّنة. قال محب الدين النجار: كتبنا عنها. وتوفيت سنة 609ه. ونختم بتاريخ فاطمة بنت سعد الخير الأنصاري الأندلسي، التي ولدت في الصين سنة 522ه، تلقت العلم عن والدها، وعن غيره من المحدثين الكبار في بغداد، ثم قامت بالتدريس في القاهرة ودمشق، وسمع منها جماعة من الشيوخ، وقال عنها أحدهم: «سمع منها شيوخنا ورفقاؤنا، ولنا منها إجازة». ويعلق الشيخ الغزالي: «المأساة، أن المرأة التي ذرعت الطريق من الصين إلى القاهرة، والتي جاء أبوها من بلنسية في الأندلس إلى الشرق الإسلامي، ليخدم العلم في أرجائه الرحبة، جاء بعدها في هذه السنين العجاف من يقول: تخرج المرأة من بيتها لأمرين: إلى الزوج، أو إلى القبر». ويقول الغزالي: «كتب حسن عبدالوهاب عن النشاط النسائي في بعض العصور الإسلامية، فكشف عن جانب مهم من دعمها للمبرات العامة، وسدها الثغور الاجتماعية، وبروزها في بذل الخير، وتفريج الكربات، قال: ما من ناحية من نواحي حضارتنا وثقافتنا إلا ولها فيها نصيب موفور، فها هي الفتوحات الإسلامية ساهمت فيها مع الرجال، واشتركت في ميادين القتال، وداوت الجرحى، واكتتبت بمالها وحليها وشَعرها لمساعدة الجيوش». أما أثرها في النهضة العلمية، فقد اعترف به أجلة العلماء. ومن المفيد أن نعرف أن أبا نواس الشاعر يقول عن نفسه: «ما قلت الشعر، حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهن الخنساء وليلى»، وأن من شيوخ العلامة المحدث ابن عساكر مؤرخ الشام نيّفاً وثمانين امرأة، وأن الخوارزمي الشاعر المشهور، كان من محفوظاته أكثر من عشرين ألف بيت من شعر الخنساء، وأن كثيراً من أجلة العلماء تلقوا العلم عن سيدات، وحصلوا على إجازات منهن. وكان الإمام مصطفى عبدالرازق (1885-1947م) يفتخر بأنه، وهو الشيخ المعمم، كان يتبادل الرسائل العاطفية مع الأديبة مي زيادة (1886-1941م)، لا بل إنه كان يحضر صالونها العامر في بيتها في قلب القاهرة، فخلع عليها وعلى علمها وفضلها من الثناء ما هي أهله ونبراسه. ولم يكتف بذلك، بل إنه وقف في مجلس عزائها بعمامته وجبته وزيه الأزهري، يتلقى التعازي من كل حدب وصوب، فكان صورة حضارية للإسلام، الذي يريد المتأسلمون أن يخضعوه لبهتانهم العريض، ولجهلهم المريض.