قد تكون الذكريات مناسبة لترويض الخيال على اقتحام الماضي من باب الحنين، غير أن الفنانة التشكيلية المخضرمة أوغيت كالان (من مواليد العام 1931)، في معرضها الجديد الذي تقيمه في غاليري جانين ربيز (الروشة - بناية مجدلاني) في عنوان "سنواتي الفتية"، تلامس ما يبدو لنا حقائق جارحة. إذ تفتح صفحات أعمالها على محطات بارزة من حياتها الشخصية التي لا تلبث ان ترتدي طابعاً سياسياً واجتماعياً مع انعطاف النص التشكيلي في إغراءاته البصرية البراقة نحو كتابة نصوص ارتجالية من نوع الاعترافات هي بين الترميز والدعابة والطرافة والنقد الساخر لبنية لبنان الهشة القائمة منذ عهد الاستقلال حتى الآن على المصالح الفردية على حساب المصلحة العامة. 36 قطعة مشغولة بعصب اليد على امتداد أوقاتها المؤنسة التي كرستها لهذا النوع من التشكيل الدافق والبسيط والتلقائي المختلط بالموتيفات والزخارف الدقيقة، التي تجر بعضها بعضاً في تعبيرات معتمدة على التقنيات المتنوعة والأقلام الملونة. فالمسطح تبسطه أمام ناظريها وسرعان ما يصير فضاء تطل منه على ماضيها وحكاياتها وأخبارها، أو تمشي به ويمشي بها لذا ترسم من مختلف الأطراف والجهات بمعيّة ذاتها وحدها وهي تردم الهوة بين الفن ومجريات الحياة. هكذا تظهر أعمالها للعيان كقطع الفسيفساء، أو كعباءات من ذهب وفضة وقصب وأرجوان تلقي بها، على القماش والجلد (جلد الخرفان) ضمن لعبة كسر مفهوم لوحة المسند التقليدية، وهي تجر أفكارها تسوقها الى سطح الذاكرة. أوغيت كالان لها عالمها الخاص ولغتها وأدواتها ومزاجها وموتيفاتها. بإمكانها ان تكون تشخيصية حين تخطط هيئات الوجوه ولكنها كثيراً ما تنحو إلى اختصار للأشكال المجردة والمتقاطعة اعضاؤها بغرابة في ما بينها. نراها تستحضر من ذاكرتها ما يشبه الخريطة المساحية لبيروت ثم تنتقل لتروي مناخات دواخل البيوت وعبق الأمكنة التي عاشت فيها (منزل دو فريج وذكريات الصيف في عاليه) وما تركه يوم زفافها من ذكريات للثوب الأبيض. كل ذلك يتجلى للعيان في القالب الحكائي للموضوع وغالباً في سطور وعبارات ساخرة وأقوال شعبية (على الطريقة اللبنانية) كأنها على هامش الكلام، الذي يطل مواربة من المظهر الزخرفي المتشابك مع حفاوة الألوان الحارة والزخارف المنمنمة المتعالقة مع تعقيبات القلم في أفعال الكتابة على ظاهر اللوحة المعلقة على الحائط بلا إطار خارجي بل من أطرافها الأربعة. إنها ذكريات لا تستر شيئاً من خبايا الذات ولا أهل السياسة والمجتمع. فهي لطالما كانت متمردة وثائرة على التقاليد والأعراف والسلوكيات التي يفترض ان ترتبط بإبنة أول رئيس جمهورية في مرحلة الاستقلال (الرئيس بشارة الخوري). لعل الجرأة هي من التي صنعت لأوغيت اسماً في عالم الفن (لها مشاركات ومقتنيات ومعارض عالمية وعربية ومحلية)، فضلاً عن موهبتها الفذة وشغفها بمختلف أنواع الخامات، وكذلك بكل ما هو غير تقليدي واستفزازي للعين والفكر والجمال. ومن باب هذه الجرأة فتحت نوافذها على عصيان كل ما هو خارج عن لغة التشكيل، حتى باتت هذه اللغة هي الوحيدة التي تتقنها وتعيش بها ومن أجلها وهي تنسج وتعمل وتفكر وتتذكر وتلهو، لكأنها تعيش الحاضر وتقاوم بالفن تقدم العمر، بغزارة إنتاجها الذي يظل شاباً وعفوياً حتى الفوران. ما هَمّ إذا كان لهذه الذكريات طابع الفضائح؟ فالفنانة لا تحفل ولا تجامل. بل هي صادقة وعميقة ومتصالحة مع نفسها ومع العالم إلى أبعد الحدود. كانت شابة حين رأت ان مشروع شق طريق الشام قضى على بناء السراي التراثي القديم في لعبة مصالح السياسيين، كانت شابة حين عاشت مخاض الاستقلال 15 يوماً ومن بعد ذلك الهباء، كانت شابة حين غادرت لبنان إلى فرنسا، وتزوجت على رغم إرادة اهلها كي تنخرط في الفن والمعارض وتصايمم الملابس لدور الأزياء (عام 1978)، وظلت تقيم ما بين باريس ونيويورك قبل ان تستقر نهائياً في العام 1988 في لوس أنجليس، حيث ظلت تفتش عن جذورها الشرقية بين ثقافات العالم وتعبر عن شهوة الحياة وزخارفها.