تتجول إلى جانب دراجتك الهوائية في السوق الأسبوعية التي يشهدها وسط المدينة كل نهار سبت، منقلاً بصرك سريعاً بين عربات الخضر وباقات الورد الملونة هنا والخبز الساخن والسمك بأشكاله هناك. السمك الذي يهوى الهولنديون تناوله طازجاً مقلياً أو نيئاً تحت شمس ربيعية في قلب السوق بين تزاحم الناس وأصوات الباعة. تشتري حوائجك وتختمها بباقة توليب برتقالية من بائعة الورد اللطيفة. البائعة التي اعتادت مجيئك ظهيرة كل سبت تحزم لك الباقة ما أن تراك وتسألك عن صديقة لك رأتها معك ذات مرة، ثم تتمنى لك نهاية أسبوع سعيدة. وقبل أن تعود إلى البيت تستغل فرصة الطقس الدافئ لتجلس وتشرب القهوة في وسط الساحة العامة الملآنة عن آخرها بالطاولات والناس، تتلقى التحيات وترسل أخرى صحبة ابتسامات دافئة وباردة، وتفكر في باقة التوليب، في صديقك الذي يزورك عصراً، في البيت، في بيتك الصغير الذي يبدو لك ولكل من يزوره أنه منزل بوسع العالم. في البيت إياه وما أن تصل بعد رحلة دقائق بدراجتك التي بت لا تستبدلها لا بالمشي ولا بكل أنواع المواصلات، تملأ آنية الزهور بالماء وتضع باقة التوليب الجديدة فيها وتركنها إلى الطاولة البيضاء الصغيرة التي تزين وسط غرفة الجلوس. وأنت تفعل هذا، وتعيد فتح وترتيب ما اقتنيته من السوق تروح تنقل عينيك بين كل زوايا البيت وأركانه؛ البيت جميل جداً، يشبه بيتاً لطالما حلمت به، لكن الغريب أن هذا البيت حقيقي أكثر من كل الأحلام التي راودتك. الأزرق في كل مكان، من أريكة غرفة الجلوس إلى كراسي غرفة الطعام وغطائها المقلم إلى أغطية غرفة النوم ومفارشها، والنبتات الملونة على طول الشرفة الواسعة وفي كل أنحاء البيت، ومكتب صغير ورفوف ملونة بكتب بلغات شتى. تتذكر الآن كيف كان هذا البيت فارغاً حين تسلمته قبل أشهر من البلدية بعد انتظار مرير تجاوز السنة قضيتها في مخيمات اللجوء التعيسة. حينها وبعد زيارتك الأولى له بصحبة أصدقائك الهولنديين تيقنت حقاً أنه البيت المنتظر، بيتك الصغير في هولندا، بالإذن من فيروز وبيتها الصغير الذي في كندا. وسريعاً، وبدعمهم ومشورتهم وجدت نفسك تضع خطة لكل زاوية من الزوايا. أليس هذا هو بيتك المستقل الأول؟ ألم تنتظره لسنوات وسنوات، خصوصاً في السنة السابقة المريرة التي قضيتها هنا في هولندا؟ لذا عليك الآن ألا تفوت لوناً ولا تفصيلاً من كل ما تمنيت أن يضمه بيتك الحلم هذا. وما أن تتسلم مساعدة البلدية لفرش البيت، تتزود بخطة محكمة يضعها أصدقاؤك الهولنديون أو ممن لديهم خبرة في هذا البلد وأسواقه حتى تحيل سريعاً كل ما كان مجرد أفكار شاردة إلى قطع أثاث وتفاصيل صغيرة وكبيرة لبيت على قدر الحلم وأكثر. لم يحمل البيت معناه مما اقتنيته له فقط، بل إن معناه الأساس هو أنه بيتك الأول الذي ستتمكن من أن تكون فيه نفسك، أن تستقبل فيه من تحب، أن تغادره متى تشاء إلى حياة أرحب من حوله، وأن تعود إليه متى تشاء كركن أمان وواحة حرية، أن تختزل كل معاني الحياة في مفتاحه الصغير، فمن تكون له هذه الأمتار المربعة في بلد يحمي حريته ولا يخاف فيه أذية سلطة أو معتقد، ماذا يريد أكثر؟ ثم أن البيت لم يعد وحده بيتاً بل أن المدينة التي تقطنها وأهلها وتفاصيلهم وتفاصيلها استحالوا خلال تلك الأشهر القليلة بيتاً إضافياً. فما أن تعود بعد رحلة قصيرة من أمستردام مثلاً إلى هذه المدينة الصغيرة حتى تحث خطاك سريعاً إلى موقف الدراجات لتأخذ دراجتك وتقودها في الشوارع المنمقة متجهاً إلى البيت لتعيش مجدداً كأول مرة مشاعر الحرية والأمان التي لم تعرفها قبلاً إلا في هذا البيت، في هذه المدينة، في هذا البلد. تتذكر الآن أيضاً يوم وصولك الأول إلى هولندا واستغرابك الشديد لمشهد الدراجات المركونة في موقف خاص في محطة القطار، يومها ولبؤس رحلة اللجوء وأهوالها تساءلت في نفسك: هل تكون لي أنا أيضاً عما قريب دراجة أركنها في محطة القطار؟ هل يكون لي مكان صغير آمن فيه نفسي وأيامي. أيام ومصاعب واختبارات كثيرة مرت بين ذلك اليوم الخريفي المتعب البارد واليوم. لا تعرف إن كان عليك وأنت تتذكرها أن تبتسم أو تبكي، بخاصة أن الحياة هنا لا تزال تحتاج إلى الكثير من الجهد تعلماً واندماجاً ومبادرات صعبة أحياناً، لتأخذ مسارها الذي يعطي فيه اللاجئ منا لبيته وحريته قيمة وهدفاً. صديقك الهولندي الذي سيزورك الآن سيبدي استغرابه مجدداً كيف لا يكون للواحد في بلادنا بيته المستقل وحريته منذ عمر الثمانية عشرة سنة، وسيغبطني أني نلت هذا وإن بعد تأخر سنين عدة، وسأحاول أن أشرح له كيف يبدأ الواحد منا هناك في تلك البلاد منذ عمر الثمانية عشرة عاماً بالتخلي عن أحلامه ودفء أسرته واستقلاليته وحتى كرامته أمام سلطات كثيرة، إلى أن ينكسر ويصبح رقماً كبقية الأرقام، أو أن يفلح في الهروب إلى بيت صغير في هولندا أو كندا!