استقرار الحكم القضائي على قول معيّن مطلب مهم يتوخاه المعنيون بالشأن العدلي، ويسعون لتحقيقه بشتى الأساليب والوسائل، لما له من الأثر الإيجابي على المتقاضين والمتعاملين في معرفة مآل دعاواهم وفي ثبات معاملاتهم، ما ينعكس على المناخ الاقتصادي والعقود التجارية. ومن الوسائل التي جرى عليها أهل العصر لتحقيق هذا الغرض: تقنين الأحكام الفقهية التي تكون محلاً للتقاضي، وتدوين السوابق القضائية، والإلزام بها. والتقنين والتدوين لهما مزايا وعيوب كأي عمل بشري، ولذا كانا محل نقاش بين فقهاء العصر، والمسألة داخلة في دائرة الاختلاف الاجتهادي. وبالنظر إلى الواقع العملي للتقنين والتدوين نجد أن السوابق القضائية لا يمكن تقنينها، لأن القضاء في تطور مستمر، ويقوم مقام التقنين بالنسبة إليها تجميع الأحكام والسوابق القضائية وترتيبها وتبويبها للاسترشاد بها. وتقنين الأحكام لا يخلو بطبيعته من الجمود الذي يحول دون وفائه بالحاجات المتجددة للمجتمع، ما يضطر السلطة التنظيمية إلى المراجعة الدائمة له بالتعديل والإلغاء والإضافة. إضافة إلى القصور الذي يعتريه من جهة عدم اشتماله على التعريفات وكثير من الفروع التي لا تحويها القوانين، اعتماداً من واضعيها على أن هذه المهمة موكولة إلى الفقه والقضاء. وبالتأمل في محاسن التقنين والتدوين المتمثلة في سهولة التعرف على الأحكام القانونية بعد جمعها في مدونة واحدة، وتوحيد قوانين البلد الواحد، والتيسير على القضاة والمتقاضين في معرفة الحكم الشرعي، وطمأنينة المتقاضين وحماية القاضي من قالة السوء، نجد أن الإلزام بالقضاء بمذهب فقهي معيّن يجمع محاسن التقنين والتدوين ويخلو من جمود القوانين وقصورها. فإن الطبيعة العملية للفقه الإسلامي الذي نشأ نشأة واقعية، بحيث كان شرحاً للنصوص التشريعية وأجوبة لأسئلة الناس من حيث الجملة، لأنه وليد القضايا العملية التي كانت أسباب نزول الآيات القرآنية وأسباب السنة القولية والفعلية والتقريرية، التي كانت ميداناً للاجتهاد والقياس والاستدلال والاستحسان، وهذا الجانب العملي جعل الروح العملية غالبة على الفقه الإسلامي، وتجاوز بذلك جمود القوانين وعدم مسايرتها لما يحدث في المجتمع من تطور يحوج السلطة التنظيمية إلى إخضاعها للمراجعة الدائمة، إذ المقصود أصالة بالتقنين غلبة الروح العملية فيه، لتكون الأحكام في متناول الجميع، وهذا متحقق في كتب المذاهب الفقهية. أما القصور الذي يعتري القوانين من جهة عدم احتوائها على التعريفات، وعدم استيعابها للأحكام، لأنها لا تحاول الإحاطة بكل الفروع والتفصيلات تاركة هذه المهمة للفقه والقضاء، فقد تجاوزته كتب المذاهب الفقهية باحتوائها على التعريفات وشمولها غالب ما ينزل بالناس من وقائع، وقامت الشروح والحواشي بخدمة المتون بالإكمال والتوضيح بتعريف المصطلحات، وبيان المحترزات، وتخصيص العمومات، وتقييد المطلقات، واستثناء ما يحتاج إلى استثناء، وتفسير الإبهام الواقع في الأحكام والألفاظ. والإلزام بالقضاء بمذهب فقهي معيّن حلٌّ عملي استقر عليه عمل الأمة منذ مدة طويلة، إذ جوز الفقهاء تولية المقلد القضاء - مع أن الأصل اشتراط كون القاضي مجتهداً - لأن حاجة الأمة اقتضت تجويز ذلك، لكي لا تتعطل الأحكام ومصالح الناس، ومع ذلك ألزموا القاضي المقلد بعدم الخروج عن مذهب إمامه، وسوغوا نقض حكمه إذا خالف مذهب إمامه، ومن نصوصهم في ذلك ما ذكره الشيخ العلامة منصور البهوتي في «كشاف القناع» (15/173) أن القاضي «ليس له الحكم بما يخالف اعتقاده، إلا المقلد، فإنه يقلد كبار مذهبه، ويراعي نصوص إمامه ومتأخرها، ويحكم به ولو اعتقد خلافه. وأفتى التقي الفتوحي بنقض حكم الحنبلي: بأن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلقة؛ لمخالفته نص إمامه. وذكر الشيخ يوسف المرداوي في الرد الجلي أنه ينقض حكم المقلد بما يخالف مذهب إمامه». وفي ذلك تيسير على القاضي والمتقاضي في معرفة الحكم الشرعي، فإن اعتماد مذهب معيّن يوفر الجهد والوقت في عصر ازدحمت فيه دور القضاء بالخصومات، وتأخر الفصل فيها. علاوة على ما في الاعتماد على الثروة الفقهية المدونة في كتب المذاهب الفقهية من إثرا ء الصكوك القضائية والسجلات والمذكرات بالمادة الفقهية الأصيلة، وفي ذلك رقي بالصياغة الفقهية لهذه المدونات، وربط مباشر لتسبيب الأحكام والطعون بالمصادر الفقهية الأصيلة، مع ما يتضمنه ذلك من البعد الإيماني من جهة اطمئنان النفوس المؤمنة إلى الأحكام المدونة في كتب فقهاء الأمة، إذ استنبطها علماء صفت قلوبهم بمعرفة الله، وعرفوا مقاصد الشارع من أحكامه التي شرعها لعباده، واكتشفوا روح الشريعة وقواعدها وأصولها، ولذلك تحمل من ثقة خاصة المسلمين وعامتهم بانتسابها واعتمادها على الشريعة المطهرة ما لا يتوافر لأي مصدر آخر. * باحث شرعي. [email protected]