وُلد الموسيقي النمساوي العبقري موزارت عام 1756، فبدت عليه مظاهر نبوغه الموسيقي وهو في الثالثة من عمره، وبدأ يؤلف ألحاناً وهو في الرابعة، وعزف أمام الجمهور وهو في الخامسة، ونشر أول إنتاج له وهو في السادسة، وشارك في جولة موسيقية جابت أوروبا مع أسرته وهو في السابعة... أعجب به إمبراطور النمسا «فرانسيس الأول» فكان يجلس إلى جواره وينصت في شغف إلى عزفه ويسميه «ساحري الصغير»، أما القطع الموسيقية المتفرقة التي ألفها موزارت فقد بلغت 626 قطعة... يقول أستاذ الكمان الروسي الكبير «ليوبولدأوير» إنه إذا كنت تريد أن تكون موسيقياً عظيماً فإنه يتعين عليك أن تولد فقيراً، تسليماً منه بأن الفقر إنما يغرس شيئاً لا يعرف ماهيته بالضبط في النفس! ولكنه شيء روحاني جميل ينمّي الأحاسيس والقوة والتعاطف والرقة، وقد كان موزارت من الفقر بحيث لم يكن قادراً على شراء الخشب الذي يدفئ بناره الحجرة الحقيرة التي كان يعيش فيها، فكان يعمد إلى دس يديه في جورب من الصوف كي يستدفئ ويقوى على العزف بعدها... مات بمرض السل وهو في ال35 من عمره بعد أن تضاءلت حيويته بفعل البرد المستمر والجوع ونقص التغذية، فلم تتجاوز تكاليف جنازته الباعثة على الرثاء ال12 شلناً ونصف، شيعها ستة أشخاص فقط، اضطروا إلى أن يعودوا أدراجهم حين أخذ المطر ينهمر عليهم. كلمة أخيرة: الفقر يعني معاناة وهي ليست مرتبطة بالعوز المادي، فكم من أناس يملكون الأموال ويعيشون أشد أنواع الألم النفسي، فالناس نوعان: نوع يملك المال، ونوع ثاني يملك الغنى، وقد يجتمع المال والغنى في شخص فيريح صاحبه، ولكن لا يعني وجود أحدهما، اقتران الآخر به، إنه غنى النفس الذي يحق للإنسان الفخر به، فأنت غني أو فقير بشخصيتك وبقدر ما استودعت فيها من نور الله، وليس بمالك أو عدمه، يقول أحد المتصوّفين: «ربما منع فأعطى، وربما أعطى فمنع»، ومعناها أنه ربما أعطاك الخالق ما تميل إليه نفسك، فمنعك التوفيق والطاعة وراحة البال، وربما منعك منه أو من بعضه فمنحك الرضا والقبول ومعهما التوفيق، أي قد يكون المنع في حقيقته عطاء، والعطاء في جوهره منع... يقول النبي داود عليه السلام: «لله الحكمة... ولنا الألم»، فله حكمته التي تخفى عن الإفهام فيما يقدره من أقدار، ولنا ظاهرها البادي من الألم، ولكن هذا ظاهرها فقط، أما باطنها فهي تلك العبقرية التي منحتها السماء للموسيقي منذ كان طفلاً، فمن أنطق الطفل بلحن لا يعي أصول نوتته الموسيقية بعد! وماذا أنجز صاحب الملايين بيديه حتى يُخلد عوضاً عنه اسم الفقير الذي لم يكن قادراً على ثمن خشب يدفئ أصابعه! تماماً كما قد يخلد ساكن القصر بعمله ولا يقدر الفقير سوى على سد رمقه حتى الموت... فلله الحكمة من قبل ومن بعد. وقالوا: «الفن هبة الله على الأرض، فعلينا ممارسته لتمجيد من وهبه» كارليل. [email protected]