تختزل سورية فسيفساء المشرق العربي عرفياً وطائفياً، وتتكثف في موقعها الجيولوجي توازناته، إذ إنها تتوسط أراضي العرب الشمالية وتتصل اتصالاً وثيقاً بجوها الجغرافي، وما يحصل فيها من أحداث يتردد صداه في محيطها. وقد عانت غالبية المدن السورية من عمليات التدمير والتخريب الممنهج خلال السنوات الست الأخيرة، فضلاً عن الحصار والتجويع، كما رحل عنها عدد كبير من القوى العاملة الشابة والمنتجة، فمن المسؤول عما حصل على الأرض السورية التي أصبحت مستباحة للغرباء؟ لا شك في أن أول مَن يخضع للمساءلة هو النظام السوري القائم، الذي أخطأ في إدارة الأزمة وأساء تقدير عمق ودلالة الحركة الاحتجاجية. لم يبادر النظام بطرح تصور إصلاحي شامل جديد يلبي مطالب المجتمع السوري يتضمن ما وعد به بشار الأسد في 7/7/2000، ولم يتفهم المؤشرات المنذرة التي ظهرت قبل اندلاع الحركة الاحتجاجية ودلَّت على عمق الاحتقان الذي يعاني منه المجتمع السوري، ومنها إضراب سائقي الأجرة عام 2008 والوقفة الاحتجاجية في مدخل كلية الآداب يوم 12/8/2010 وحادث «الحريقة» في دمشق يوم 17/2/2011 الناجم عن اعتداء شرطي على مواطن ما أدى إلى تصاعد هتاف «الشعب السوري ما بينذل». ويلاحظ أن الحركة الاحتجاجية، كانت اجتماعية في البداية وكانت تطالب بإصلاحات سياسية وتغيير الأسلوب الذي يُحكَم به الشعب السوري، لا سيما بعد انتقال السلطة إلى بشار الأسد بالتوريث وسط شعور عام بالاستياء الناجم عن الاستهانة بإرادة الشعب. عند اندلاع الشرارة الأولى للحركة الاحتجاجية، قلّل النظام السوري من أهميتها، واعتقد أنه قادر على احتوائها بالأساليب القمعية المعتادة، لكنه فوجئ باتساع نطاقها في محافظات عدة وفي أوقات متزامنة. زاد انشغال النظام بتطورات الداخل، وتراخت قبضته على مناطق الحدود، الأمر الذي أتاح مزيداً من تدفّق السلاح والأموال وتدفق الجماعات التكفيرية والجهادية والمرتزقة. ولوحظ أن المتدفقين غلبت على تكوينهم عناصر المرتزقة التي اشتبكت مع الجيش النظامي بأسلوب حرب العصابات في جبهات عدة، وكشف ذلك عن حجم المؤامرة على سورية وشعبها. تمكنت جماعات المرتزقة من الاندساس في صفوف المقاومة الوطنية واختطاف الثورة من فصائل المعارضة الوطنية بالقمع والإرهاب. استطاعت هذه الجماعات السيطرة على توجيه المسار السوري ومفاوضاته، ولكن ذلك لا ينفي المسؤولية عن نظام بشار الأسد. ولكن يظل السؤال: ما الذي حرَّك الأطراف الدولية والإقليمية في الحملة على الشعب السوري؟ وما هي دوافع حشد جيوش وطائرات أكثر من ثلاثين دولة، إضافة إلى آلاف العناصر وأغلبها من غير السوريين؟ الأسد وأميركا وكان لسورية بشار الأسد دور– وإن كان محدوداً- في تطور الأحداث في العراق، فقد سمحت لبعض المعارضين العراقيين المقيمين على أرضها بحرية الحركة السياسية والتسلل إلى داخل العراق ضمن صفوف المقاومة العراقية، وينسب إلى بشار الأسد قوله وقتها إن «المقاومة حق من حقوق الشعوب ولذلك فمن الطبيعي أن نتبناها وندعهما». وبعد مشاركته في قمة الرياض العربية الإسلامية- الأميركية، وجَّه ترامب اتهاماً مباشراً إلى إيران بأنها تساند الإرهاب وتعمل على تقويض فرص الاستقرار فى المنطقة. وبعدها ضرب التحالف الدولي موقعاً على مقربة من قاعدة التنف على الحدود المشتركة السورية العراقية الأردنية. استهدفت الضربة «كتائب الإمام علي» التي يدعمها الحرس الثوري الإيراني، وكانت إيران تسعى لبسط نفوذها في هذه المنطقة لتشق ممراً يمتد إلى سورية ولبنان عبر بغداد. تلك الضربة كانت بداية تعبر عن تطور مُنذر لطهران، ويحمل معه أخطار احتمال تحوله إلى مواجهة عسكرية جديدة في المنطقة ستكون لها تداعياتها على مجمل الصراع الدائر في سورية. ولكن، هل ستتصرف إدارة ترامب كدولة عظمى إزاء تداعيات الفوضى التي ترتبت على السياسات الأميركية السابقة في المنطقة وأدت إلى تسيد الفوضى فيها؟ وهل تمتلك القدرة والجرأة على تصحيح مسارها، أم ستظل تحت سيطرة «القبضة الخانقة» التي يمارسها اللوبي الموالي لإسرائيل داخل الإدارة الأميركية؟ بالنسبة إلى روسيا الاتحادية، كان تدخلها في سورية جزءاً من مشروع بوتين للإحياء الامبراطوري ولاستعاده قوة «قلب الأرض» والسعي للتحكم في الجوار وأبعد من الجوار. كانت روسيا القيصرية تحلم بوضع قدميها في المياه الدافئة، فأصبحت لها قواعد جوية وبحرية على الشواطئ السورية. ومن هذه البقعة السورية بدأ جذب تركيا إلى جانب روسيا والسعي إلى تحويلها شريكاً استراتيجياً بخلخلة علاقاتها بالولايات المتحدة. وهكذا أصبحت سورية ورقة للمساومة في محادثات موسكو مع واشنطن. واستثمرت موسكو المرحلة الانتقالية وسياسة النأي بالنفس الأميركية والقيادة من الخلف فأصبحت روسيا أكثر الأطراف تأثيراً في مسار الأزمة السورية بل أصبحت بمثابة الطرف الرئيس المفاوض سواء في أستانة أو جنيف، كأنها الممثل الشرعي للنظام السوري، وقامت بدور بارز في إضعاف فصائل المعارضة السورية وإدخالها في صراعات وتناقضات داخلية، زادت من انقسامها وتقليل فاعليتها، ودخلت سورية في ما يسميه بعضهم «أرصدة وأصولاً روسية في الصراع الجيوسياسي العالمي». تركيا الفاعلة وبالنسبة إلى الأطراف الإقليمية نجد أن تركيا تعتبر في مقدم القوى الفاعلة والمؤثرة في مسار الأزمة السورية. واتسمت علاقة أنقرة مع العالم العربي، وبخاصة سورية، بالتوتر المكتوم تارة والعداء الصريح تارة أخرى، وكان ذلك تعبيراً من القيادات التركية عن عدم رضاها عن اتفاقية سايكس- بيكو لأنها ساهمت - على حد قول الجانب التركي- في تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية، على رغم أنها ضمت مناطق انتزعت من سورية وتم إلحاقها بتركيا (الإسكندورنة) وغيرها. ثم جاءت مرحلة أردوغان التي كشفت عن تغيير جوهري في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية. فالضعف العربي والسوري بخاصة، أغرى القيادات التركية باستعادة الأحلام العثمانية بعد إعطائها غلافاً إسلامياً، وبدء التفكير في إقامة كومنولث عثماني عبر استعادة مناطق كانت خاضعة للسلطة العثمانية كمدينة حلب وكركوك والموصل. ألم يقل أردوغان إن «الأتراك اليوم هم أحفاد الخلافة العثمانية على ديانة المسلمين». ويلاحظ أحد المحللين السياسيين أن توجُّه الأتراك كان واضحاً في دعوتهم لأن يكون «الإخوان المسلمون» السوريون هم لا غيرهم، شركاء في حكومة ائتلافية اقترحها أردوغان على بشار الأسد، وكان الهدف التركي بعد إقلاع «الربيع العربي» ما أفصح عنه وزير الخارجية في 27/4/2012 في البرلمان التركي عندما قال: «تريد تركيا شرق أوسط جديداً ترسم معالمه وهي التي تقوده»، والفراغ العربي وتباين المواقف العربية من المسألة السورية جعل الدور التركي أكبر من حجمه الطبيعي. وبانكشاف الدور التركي وتحت ضغوط متعددة، اتخذ قرار في 26/1/2017 بتصنيف كل من تنظيم «داعش» و «جبهة فتح الشام» باعتبارهما تنظيمين إرهابيين. ولكن، وحتى الآن، لا تزال أنقرة تجد صعوبة في فك ارتباطها بهذا المخطط الداعم لتيار الإسلام السياسي في المنطقة، بالتنسيق مع أطراف أخرى كان في مقدمها إدارة أوباما. واستثمرت أنقرة بدايات الحركة الاحتجاجية السورية، لتدفع علناً عبر الحدود المشتركة مع سورية بالعشرات من عناصر الجماعات التكفيرية مزودين بالسلاح والمال، واستضافت بعض قيادات التنظيم الدولي ل «الإخوان»، وكان التوافق والتنسيق في هذا الصدد واضحاً مع إدارة أوباما. ولوحظ أن سورية شهدت منذ مطلع 2012 عمليات تفجير في دمشق وعدد من المدن وسيطرة تنظيم «القاعدة في بلاد الشام»، و «جبهة النصرة» على منطقة القلمون وعلى ريف حمص الغربي والغوطة الشرقية. هذه العمليات وغيرها كان هدفها تضييق الخناق على نظام بشار الأسد ودفعه للتخلي عن السلطة. وبمجيء إدارة ترامب وتبنيها سياسة مغايرة، لا سيما بعد لقاء القمة في الرياض (20/5) وتجلى ذلك بوضوح في رفض واشنطن مشاركة أنقرة في معركة مدينة الطبقة السورية التي يتركز فيها فلول «داعش». وجدت واشنطن أن لأنقرة حسابات وأهدافاً خاصة لا تتفق مع المخطط الأميركي الجديد. ولذا فضلت واشنطن الانفراد بقيادة معركة «الطبقة» والاعتماد على «قوات سورية الديموقراطية» وتسليحها، وهي في غالبيتها مكونة من عناصر كردية سورية، الأمر الذي أثار مخاوف تركيا لخشيتها من تداعيات ذلك على الوضع الكردي التركي. فمحاربة «داعش»- الذي ساهمت في تشكيله ودعمه– ليست من أولويات تركيا، بل العمل على منع سيطرة الأكراد على حدودها الجنوبية. وتخشى أنقرة من أن تكون معركة الطبقة جزءاً من مخطط تقسيم العراق وسورية لإنشاء دولة كردية كبرى. الموقف الأميركي وإن كان لم يتبلور في شكل كامل حتى الآن، إلا أنه في- تقديرنا- يسير في اتجاه استبعاد تركيا تدريجاً من مجمل التفاعلات السورية، وهذا في حد ذاته إذا تحقق سيقلل من المتورطين في المأساة السورية وسيسهل التوصل إلى تسوية سياسية لها، لا سيما إذا امتد إلى استبعاد إيران وميليشياتها من المشهد السوري في إطار ترتيبات إقليمية ودولية لتسوية المسألة السورية. أما إيران فلديها من التوتّر والثأر القديم مع بعض الدول العربية، يتراوح في حده الأدنى ما بين خلاف حدودي أو تصفية حسابات إقليمية، وفي حده الأقصى سعي إيران لاستعادة الصراعات المذهبية ذات الأبعاد التاريخية وتصعيد الخطاب المذهبي في المنطقة، وهي على نسق الدول التي تعاني أزمات داخلية، تستخدم السياسة الخارجية كمصدر للإلهاء، تحاول إشغال الداخل بقضايا إقليمية، مستغلة في ذلك التناقضات والأزمات وضعف النظام الإقليمي العربي لتمد نفوذها إلى دول عربية مجاورة. إيران وميليشياتها وفي سورية استغلت «تحالف الضرورة» الذي أقامته مع النظام السوري في عهد حافظ الأسد وكانت له ضوابطه، لتزيد في عهد بشار من تغلغلها في الأراضي السورية، بل وتسعى إلى إقامة مناطق سورية قاصرة على هذه الطوائف، فضلاً عن دور ميليشياتها في المعارك الدائرة في سورية، ما زاد من تعقيد المسألة السورية. وقد تدخلت إيران بقوة في مسار الأحداث في سورية، وتعد أحد القوى الخارجية المهمة التي تدعم نظام بشار الأسد، وهي تهدف في الوقت ذاته إيجاد موطئ قدم لها في شرق البحر الأبيض المتوسط، عبر إنشاء مناطق تواصل جغرافي عبر العراق وصولاً إلى سورية، وبالتالي ضمان حماية إحدى أهم المليشيات الشيعية في لبنان «حزب الله»، وهو ما يشير إلى طموح إيراني إلى إقامة شرق أوسط إسلامي. وتعتبر إيران سورية خط الدفاع الأول وحليفاً سياسياً إقليمياً شبه وحيد، ووصل الأمر إلى اعتبار طهران أن سقوط بشار الأسد يمثل خطراً مباشراً على إيران وطموحاتها. وقد اتبعت إدارة أوباما سياسة استرضائية مع إيران توصلاً للاتفاق النووي معها. وجاءت إدارة ترامب التي تعتبر السياسة الإيرانية الإقليمية مصدراً لعدم استقرار المنطقة، فضلاً عن اتهامها بدعم الإرهاب، وجاءت الضربة الأميركية لمنطقة النتف من منطقة المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، مستهدفة منطقة استراتيجية تسعى إيران إلى بنائها، وكانت هذه العملية بمثابة تحذير ومقدمة لما هو آت. وستكشف الأيام المقبلة عن مدى استجابة إيران للتحدي الأميركي، ومدى استعداد قادتها لتغيير سياستها الإقليمية الحالية، وفي شكل يسهم في تهدئة النزاعات الإقليمية. وجاء الحديث المنسوب إلى الرئيس روحاني مع الشيخ تميم أمير دولة قطر وتضمن: «إن طهران مستعدة لمحادثات مع الدول العربية من أجل التوصل إلى «اتفاق حقيقي» نحو السلام والإخاء» (موقع أسوشيتدبرس يوم 27/5/2017) هو في إطار تكتيكي أم في إطار نظرة استراتيجية؟ في تقديرنا أن طهران تعي جيداً مدى قدرتها على مواجهة القوة الأميركية، وتتسم السياسة الإيرانية بالبراغماتية. فهل ستقدم على تبني مواقف دفاعية؟ وهل يستطيع النظام الإيراني إجراء التحول الجذري ليصبح نظاماً مصدراً للأمن والاستقرار في المنطقة؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القليلة القادمة. ولإسرائيل سياسة معادية للعالم العربي وسياسة معلنة لتفتيت الدول العربية وإقامة دويلات تحكمها أقليات دينية أو عرقية، حتى لا تكون الدولة الوحيدة القائمة على عنصر الدين «دولة يهودية»، (أنظر تقرير «مركز جافي للدراسات الإستراتيجية» بجامعة تل أبيب في أيار/ مايو 2003)، ومواقف إسرائيل من سورية بشار الأسد امتداد لمخطاطتها المناوئة لنظام حافظ الأسد والتي كانت تستهدف الدور الإقليمي لسورية، وتوجهاتها في النزاع العربي- الإسرائيلي. فسوريه إضافة إلى لبنان، هما البلدان العربيان اللذان لم يوقعا اتفاق سلام مع إسرائيل. وعلى رغم أن حافظ الأسد عرض في المرحلة الأخيرة لمفاوضاته معها، عرضاً غير مسبوق، بإبداء الجانب السوري استعداده لعدم تقليل كمية المياه التي تحصل عليها إسرائيل من الجولان إضافة إلى جودتها، لكن إسرائيل كانت تطمع في أكثر من ذلك، إنها تريد صكاً بتنازل سورية عن الجولان وهو ما رفضه حافظ الأسد. ويلاحظ أن إسرائيل لم تتوقف من جانبها عن القيام بغارات جوية مستهدفة مواقع عسكرية سورية كان آخرها خلال آذار (مارس) 2017، إضافة إلى عمليات التسلل إلى الداخل السوري. هنا يتساءل بعضهم: هل يعقل أن يكون السبب وراء تدمير قدرات سورية وتشتيت شعبها هو خلق دولة فاشلة أخرى في المنطقة لتأمين إسرائيل؟ أتذكر هنا كلمات للمعلم بطرس البستاني، في «نفير سورية» قالها منذ أكثر من قرن ونصف القرن، وهي تنطبق على وضعها الراهن: «ما بال دمشق ملكة سورية وأشهر المدن القديمة وأعظمها حالة في وسط غابات وغياض تحت الصفصاف حول نهر بردى لابسة السواد تنوح باكية على شبابها». خلاصة القول، يبدو أن سورية الدولة وشعبها سيظلان لفترة قادمة غير قصيرة، رهينة بين إرث الماضي السياسي ومخاض الحاضر وتداعياته، ورهانات المستقبل. هذا قدر سورية وشعبها، ولن تكون دول المنطقة العربية بمعزل عن تداعيات سقوط سورية الدولة أو تقسيمها.