هل يشفع لنا القول إن تفجير الإسكندرية صنعته أصابع أجنبية، وإن ما تشهده الجزائروتونس من اضطرابات هو بسبب مؤامرة خارجية مدبرة؟! يبدو أنها عادة متأصلة في ثقافتنا، أن ترتفع الأصوات، مع كل أزمة أو مصيبة تحل بنا، لتقرن ما يحصل بمؤامرة مدبرة من فعل الصهيونية أو أطراف خارجية معادية تترصد مجتمعاتنا وتحاول النيل منها، وعليه فإن ما نعانيه من تخلف وفشل لمشاريع التنمية سببه المؤامرة، وهذا الحضور البغيض للفساد والفقر سببه المؤامرة، ولا نذهب بعيداً فربما يرى البعض مؤامرة إذا ما انتشرت في مجتمعاتنا انفلونزا الطيور أو الخنازير! والحال أن انعدام الشفافية وانغلاق حياتنا السياسية لعقود أمام الديموقراطية، وقوة موروثنا الثقافي والتربوي الذي يرفض عادة النقد والاعتراف بالخطأ ويستسهل تعليق أسباب العجز والتقصير على الغير، ثم دور بعض التوظيفات الدينية في تسويغ عقلية التهرب من المسؤولية، بأن كل شيء قضاء وقدر لا راد له، وأننا أناس مسيرون لا مخيرون، وإذا أضفنا ما يتطلبه تفسير الظواهر تفسيراً علمياً من جهد ومكابدة لتشغيل القدرة العقلية على التحليل والتركيب، وهذا أمر لا يحبذه الناس ما دامت فكرة المؤامرة تفسر لهم كل شيء بسهولة ويسر، يمكننا أن نقف عند أهم العوامل التي مكنت النخب الأيديولوجية والسياسية، إن في السلطة أو خارجها، من الترويج لنظرية المؤامرة وتوظيفها للتهرب من المسؤولية وتبرير عجزها عن تحقيق ما وعدت جماهيرها به من حرية وحياة كريمة وتالياً لتسويغ آليات الاضطهاد وإشغال مجتمعاتها بالأخطار الخارجية عن الاهتمام بالأسباب الحقيقية لاستمرار القهر والفقر والتخلف. وبالتالي لا يعقل، حتى لو ثبت أن الجاني غريب عن أرض مصر، أن نكتفي بالقول إن تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية هو فعل خارجي، ونتناسى طابع المشكلات التي تتفاعل وتتفاقم منذ عقود بين الأقباط والمسلمين، بدءاً بما يشهده الإعلام من مشاحنات بين رجال دين متطرفين من الجانبين يلجأون إلى أساليب متخلفة وخطيرة في آن، تفاضل بين الأديان وتشحن طائفياً نفوساً ضعيفة يطوقها العوز والحرمان، مروراً بالدور الذي لعبته الحكومات المصرية المتعاقبة ذاتها عندما لجأت إلى الاستقواء بالتيارات الدينية وتأجيج النزاعات الطائفية من أجل تسهيل شروط السيطرة، إنتهاءً بحالة التمييز القائمة عملياً بين الأقباط والمسلمين وغياب المساواة وروح المواطنة في ظل قوانين وبنود في الدستور لا تزال تفرق بينهم مثلاً في تحمل المسؤوليات السياسية وفي ممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة. وأيضاً لا يعقل إرجاع ما يحدث من اضطرابات في الجزائر أو تونس إلى مؤامرة مدبرة من الخارج، ونشيح بنظرنا عن الفساد وسوء توزيع الثروة الوطنية والحالة المذرية على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي التي وصلت إليها شرائح واسعة من أبناء الشعبين، وقس على ذلك اندفاع البعض لقراءة الاستفتاء الجاري في السودان على أنه مؤامرة أيضاً، وكأن سياسة الاضطهاد والتمييز التي مارستها حكومات الخرطوم ليست هي المسؤولة عما صارت إليه العلاقة بين شعبي الجنوب والشمال، وكأن إضاعة الفرص التي منحت لتصويب هذه العلاقة وتنمية المنافع المتبادلة وأهلية التعايش المشترك صارت خارج الحسابات! صحيح أن ثمة مخططاً قديماً وأغراضاً مكشوفة لقوى الهيمنة الخارجية للنيل من حقوقنا وطموحات شعوبنا، وربما صحيح ما تعلمناه في الكتب المدرسية عن وجود مؤامرات أجنبية تهدف إلى افتعال حروب أهلية وإثارة صراعات تطبيقاً لمبدأ فرق تسد لإبقاء الكيان الصهيوني متفوقاً ولإفشال الدول العربية ومنعها من أن تصبح دولاً مؤثرة سياسياً أو متطورة اقتصادياً أو متقدمة تكنولوجياً، لكن الصحيح أيضاً أن السياسة ليست حقلاً لقوى شريرة خفية تتحكم بمجرياتها وبأحداث العالم كما تشاء، وأن تضخيم فكرة المؤامرة ورد كل النكبات إليها، وإهمال دور التنمية الديموقراطية في تقوية الذات وتحصين المجتمعات، هي مؤامرة في حد ذاتها ولكنها في هذه الحالة مؤامرة ضد أنفسنا! وبعبارة أخرى لا يمكن مؤامرة خارجية أن تنجح إذا لم تتوافر لها شروط داخلية تسهل لها الأمر، إن على مستوى غياب الحريات وتهميش دور الناس في مجتمعاتها، أو على مستوى انتشار الفساد والمحسوبية، أو على مستوى تغذية الانقسامات الطائفية والإثنية، أو على مستوى سوء الأحوال المعيشية وإضعاف الاقتصادات الوطنية، فالكرة ليست في ملعب التآمر الخارجي إن وجد بل في ملعبنا لأننا قصرنا في بناء مجتمعات صحية قادرة على مواجهة أغراضه وإفشال مخططاته. طبعاً لا نأتي بجديد في القول إن ثمة أعداء في الخارج قد يتآمرون على مجتمعاتنا، وإن نظرية المؤامرة هي أشبه بحالة مرضية تصيب الفكر السياسي لأنظمة غير ديموقراطية لا تريد أن تتحمل المسؤولية عن أفعالها، وتتوهم بأن ليس من أخطاء ارتكبتها هيأت المناخات لحصول ما يحصل من اضطرابات، لكن الجديد هو هذا التوظيف السياسي الواسع لفكرة المؤامرة والتهويل بدورها لتشويه الحقائق وتضليل الناس، والجديد أيضاً هو سؤال طالما يشغل البال، هل هو قدر مجتمعاتنا أن تكون لعبة بأصابع أجنبية تصنع فيها ما تشاء وقت تشاء؟! ولماذا لا يزال الآخرون ينجحون في مؤامراتهم علينا ولم ننجح حتى الآن في إنهاء هذا التآمر ونحن نعرفه منذ سنين طويلة ونعرف قواه وأهدافه؟! علينا ألا نجنح نحو التخفيف من نتائج وآثار ما نقوم به في عالم صارت شؤونه السياسية تحت أضواء كاشفة ولم يعد بالإمكان أن تدار أو تصنع في ايونات القصور والغرف المغلقة، وإن كان ثمة مسؤولية موضوعية دائمة تقع على عاتق الغير الخارجي، لكن وجه المسؤولية الرئيس يقع بلا شك على عاتق قوانا الذاتية، على درجة وعينا حقيقةَ الشروط القائمة بما في ذلك نوايا الخارج ومخططاته وتالياً على وضوح سياساتنا وبرامجنا وعلى قدرتنا على تجميع القوى وتفعيلها على قاعدة الحرية والمساواة. فالمجتمعات الحية عادة ما تواجه التحديات الخارجية بالانكفاء نحو الداخل لحل مشكلاته وتعزيز مناعته وأسباب القوة التي تمكنه من النمو والتطور ومقاومة ما يحاك ضده بكفاءة وفاعلية. وبكلمة أخيرة ينبغي ألا نلوم الآخرين على أنهم يخططون لتحقيق أهدافهم وحماية مصالحهم التي قد تضر بنا، بل علينا أن نلوم أنفسنا لأننا لا نخطط كفاية لحماية مصالحنا ولا نعمل ما يفترض أن نعمله لبناء مجتمعات للمواطنة خالية من التمييز والعوز، وحرام أن «نعيب زماننا والعيب فينا»! * كاتب سوري