سلّم الوزير الأول التونسي محمد الغنوشي إلى رئيس مجلس النواب التونسي فؤاد المبزّع أمس منصب رئيس الجمهورية بالوكالة بعدما أكد المجلس الدستوري «شغور» منصب الرئيس إثر رحيل الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي وصل إلى المملكة العربية السعودية ليل الجمعة - السبت بعدما أطاحته ثورة شعبية استمرت قرابة شهر. وفي حين أعاد المبزّع تكليف الغنوشي تشكيل حكومة جديدة تضم أحزاب المعارضة بهدف تنظيم انتخابات جديدة في البلاد خلال فترة 60 يوماً، غرقت مناطق تونسية كثيرة في حال فوضى عارمة حيث قامت عصابات بعمليات نهب واسعة للمتاجر والمؤسسات والمنازل، في ظل غياب لافت لقوات الشرطة التي ينظر إليها كثيرون بوصفها محسوبة على الرئيس المخلوع. لكن الجيش التونسي، مدعوماً بصلاحيات واسعة مخوّلة له بفعل حال الطوارئ التي أُعلنت في البلاد يوم الجمعة، لجأ إلى نشر وحداته في كثير من المناطق بهدف وقف الفوضى، وبعث برتل من الدبابات إلى ضاحية قرطاج حيث مقر رئاسة الجمهورية. وتمثّل الحادث الأمني الأبرز الذي وقع في البلاد، أمس، في مقتل عشرات السجناء في سجن المنسيتر. ونسبت وكالة تونس أفريقيا الرسمية للأنباء إلى مصدر طبي إن 42 سجيناً قُتلوا في أعمال شغب في سجن ببلدة المنستير، ونقلت عن علي الشاذلي قوله إن بعض السجناء حاول الفرار من السجن مما أدى الى حال فوضى تامة. وأضاف أن بعض السجناء تمكن فعلاً من الفرار، في حين أضرم آخرون النار في الحشايا في عنبر يضم أكثر من 90 سجيناً. وكانت وفاة الضحايا جراء حروق أو استنشاق الدخان، كما أوردت وكالة «رويترز» نقلاً عن الوكالة التونسية. وأفيد بعد الظهر أن ألف سجين آخر تمكنوا من الفرار من سجن آخر في القصرين. وعلى الصعيد الميداني، جاب مئات الجنود شوارع العاصمة في وقت قال سكان في عدد من أحياء مدينة تونس وضواحيها إن جماعات كانت تجوب المدينة وتشعل النار في المباني وتهاجم الناس والممتلكات. وبث التلفزيون الرسمي أن أحياء واسعة تعرّضت للنهب في العاصمة. وأغلقت حواجز تابعة للجيش الطريق إلى شارع بورقيبة، وهو الشارع الرئيسي الذي شهد اشتباكات يوم الجمعة. وكانت طائرة هليكوبتر عسكرية تُحلّق فوق وسط العاصمة تونس خلال النهار. وفي الضواحي الشعبية لتونس اصطف مئات السكان على جانبي الشوارع حاملين قضباناً معدنية وسكاكين في محاولة لصد اللصوص، كما أوردت وكالات الأنباء. وقال سكان في مناطق عدة في العاصمة التونسية إن جماعات تجوب الأحياء وتقوم بإشعال النار في مبان وتهاجم الناس والممتلكات في الوقت الذي اختفت فيه الشرطة. وكان يمكن سماع أصوات إطلاق نار بين الحين والآخر في قلب تونس بالإضافة الى صوت إطلاق القنابل المسيلة للدموع في الوقت الذي حلقت فيه طائرات هليكوبتر. ونقلت «رويترز» عن شهود في ديندين الواقعة على بعد 19 كيلومتراً من العاصمة إن طائرات هليكوبتر أنزلت جنوداً في محاولة لاستعادة الأمن. ونشر الجيش أرقاماً لخطوط هاتف ساخنة كي يبلّغ الناس عن أي حالات طوارئ أمنية. وقال وائل بحريني من منطقة التحرير العليا في تونس إن هناك فوضى في شكل كامل في المنطقة. وقال شاب ذكر أن اسمه وسام: «إنها فوضى كاملة. عائلاتنا مرعوبة». وقال مراسل ل «رويترز» إنه شاهد أشخاصاً في ملابس مدنية يطلقون النار من مركبات لا تحمل علامات مميزة في أحد الأحياء. ولم يعرف من هؤلاء الأشخاص. كما سجلت أعمال مماثلة في مدن بالشمال (بنزرت) والوسط (القيروان) والجنوب (قفصة) التي تحدث سكانها عن أجواء من انعدام الأمن وحالة رعب تسود الأهالي وحالات نهب يقوم بها ملثمون في غياب قوات الأمن. وقال علي وهو أحد سكان مدينة القيروان: «نعرفهم جيداً: إنهم من عناصر الحزب (الدستوري الحاكم) الذين يتحركون بسيارات وهم منظمون ويقومون بأعمال تكسير ويبثون الفوضى». وقد خلت المدينة من قوات الشرطة ويطلق عناصر الجيش النار في الهواء في محاولة لتفريق اللصوص في حين تجند الأهالي للدفاع عن أنفسهم، بحسب الشاهد ذاته. وتعرض المركز التجاري الكبير «جيان» عند المدخل الشمالي للعاصمة التونسية، لعمليات نهب السبت غداة مهاجمته الجمعة، بحسب ما ذكر مصور لوكالة «فرانس برس» في المكان. وقال المصور إن عشرات الأشخاص يغادرون المركز وهم يحملون كل ما تمكنوا من الاستيلاء عليه في غياب أي وجود لقوى الأمن. وأضاف أن «مركزاً قريباً للحرس الوطني خال حالياً». وكان هذا المركز التجاري أُحرق جزئياً الجمعة. واندلعت الثورة الاجتماعية في تونس في 17 كانون الأول (ديسمبر) ضد غلاء المعيشة والبطالة والفساد اثر انتحار الشاب التونسي محمد البوعزيزي (26 سنة) بإضرام النار في نفسه في سيدي بوزيد (265 كلم جنوبتونس) احتجاجاً على مصادرة عربته لبيع الخضار. وأعلنت الوكالة التونسية للطيران المدني السبت في بيان إعادة فتح جميع المطارات التونسية أمام الملاحة الجوية، غداة إعلان إغلاق المجال الجوي. وقالت إن «المجال الجوي التونسي وجميع المطارات التونسية مفتوحة» أمام الملاحة الجوية العمومية. وكان المطار أُغلق بعد ظهر الجمعة في وقت متزامن مع مغادرة الرئيس المخلوع بن علي البلاد. وظلت وجهة بن علي مثار لغط حتى وقت متقدم ليلاً. إذ تردد في البداية أنه غادر إلى مالطا، بحماية ليبية، لكن ذلك تم نفيه. كما تردد أن وجهته كانت فرنسا التي نفت ذلك بدورها وأعلنت أنه ليس موضع ترحيب. كذلك تردد أن طائرة تقله توقفت في مطار بسردينيا (إيطاليا) حيث تزوّدت بالوقود قبل إقلاعها ثانية. لكن الديوان الملكي السعودي أعلن فجر أمس أن الرئيس التونسي وعائلته وصلوا إلى جدة، مؤكداً تأييد المملكة العربية السعودية كل إجراء يعود على الشعب التونسي بالخير. وجاء في بيان صدر عن الديوان الملكي السعودي: «انطلاقاً من تقدير حكومة المملكة العربية السعودية للظروف الاستثنائية التي يمر بها الشعب التونسي الشقيق، وتمنياتها بأن يسود الأمن والاستقرار في هذا الوطن العزيز على الأمتين العربية والإسلامية جمعاء، وتأييدها لكل إجراء يعود بالخير للشعب التونسي الشقيق، فقد رحبت حكومة المملكة العربية السعودية بقدوم الرئيس زين العابدين بن علي وأسرته إلى المملكة. وإن حكومة المملكة العربية السعودية إذ تعلن وقوفها التام إلى جانب الشعب التونسي الشقيق لتأمل - بإذن الله - في تكاتف أبنائه كافة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه. والله الموفق». والرئيس بن علي متزوج وله ستة أبناء هم ثلاث بنات من زواج أول وابنتان وابن من زوجته ليلى بن علي التي كانت حاضرة بقوة في الحياة الاجتماعية والسياسية. الرئيس الجديد بالوكالة في غضون ذلك، أعلن الرئيس التونسي بالوكالة فؤاد المبزع، في كلمة مقتضبة بعد أدائه اليمين الدستورية أمام أعضاء في مجلسي النواب والمستشارين، أمس، أن المصلحة العليا للبلاد تقتضي تشكيل «حكومة ائتلاف وطني». وجاء توليه الرئاسة بعدما أعلن المجلس الدستوري «شغور منصب رئيس الجمهورية» وأن «الشروط الدستورية توافرت لتولي رئيس مجلس النواب (فؤاد المبزع) فوراً مهمات رئيس الدولة بصفة موقتة». واستند هذا التغيير المفاجئ إلى الفصل 57 من الدستور وذلك بناء على طلب من رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد الغنوشي الذي كان قد أعلن الجمعة توليه الرئاسة بالوكالة بعد فرار الرئيس بن علي نزولاً عند ضغط الشارع. وقد تم تعيين الغنوشي بناء على الفصل 56 من الدستور الذي يترك الباب مفتوحاً أمام عودة بن علي، لكن قانونيين وقسماً من المعارضة والشارع رفضوا ذلك. وقال الغنوشي، الجمعة، إنه تولى مقاليد الحكم موقتاً لأن الرئيس بن علي غير قادر موقتاً على أداء مهماته. وقال المجلس الدستوري، وهو أعلى سلطة قانونية في البلاد في القضايا الدستورية، إن انتخابات الرئاسة الجديدة في البلاد يجب أن تجرى في غضون 60 يوماً اعتباراً من الآن. وقال فتحي عبدالناظر رئيس المجلس الدستوري في تصريح بثه التلفزيون الحكومي إن المجلس يعلن شغور مجلس الرئاسة بصفة نهائية وإنه ينبغي الاحتكام إلى المادة 57 من الدستور التي تنص على أنه ينبغي أن يشغل رئيس البرلمان منصب الرئيس موقتاً وأن يدعو إلى انتخابات خلال فترة تتراوح بين 45 يوماً و60 يوماً. وأجرى الوزير الأول الغنوشي أمس سلسلة لقاءات مع قادة معارضين بهدف الاتفاق على تشكيل حكومة اتحاد وطني تُشرف على المرحلة الانتقالية التي تنتهي بتنظيم انتخابات جديدة خلال شهرين. ومن بين من وُجّهت إليهم الدعوة إلى الاجتماع مع الغنوشي من أجل محادثات الائتلاف نجيب الشابي وهو محام مفوه ينظر إليه ديبلوماسيون غربيون منذ فترة طويلة على أنه أكثر الشخصيات الجديرة بالثقة في المعارضة. وقال الشابي لتلفزيون «اي-تلي» الفرنسي: «هذه لحظة حاسمة. هناك عملية تغيير نظام جارية. يجب أن تُفضي إلى إصلاحات عميقة.. لإصلاح القانون وترك الاختيار للشعب». وقال مصطفى بن جعفر رئيس حزب اتحاد الحرية والعمل ل «رويترز» إنه أحد شخصيات المعارضة التي سيقابلها الغنوشي. وأضاف أن الأهم الآن هو إخراج البلاد من المأزق الذي تمر به. وذكر أن معارضين آخرين دُعيا معه إلى لقاء الغنوشي وهما الشابي وأحمد ابراهيم رئيس حزب التجديد. وفي المقابل، انتقد حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي المحظور، تولي الغنوشي السلطة خلفاً لبن علي (قبل تسليمها إلى المبزّع) واعتبر أن الطريقة التي تم بها ذلك تمثّل انتهاكاً للدستور التونسي. وقال لوكالة «فرانس برس» إن ما جرى «ليس مطابقاً للدستور»، مشيراً إلى «محاولة بن علي للالتفاف على الانتفاضة الشعبية التي يجب أن لا تسرق منا». وأضاف الهمامي الذي أفرج عنه الجمعة بعد ثلاثة أيام من الاعتقال: «ليس له (بن علي) الحق في تعيين خلف له (...) يجب أن تتشاور الأطراف السياسية المعارضة من أجل تغيير ديموقراطي يرتقي إلى طموحات الشعب الذي ضحّى بأرواح شهداء». وكان الغنوشي ظهر في بث مباشر على التلفزيون عبر الهاتف ليلة أول من أمس ووعد ببذل قصارى جهده لاستعادة النظام. وأكد أنه سيلتقي مع ممثلين للأحزاب السياسية في محاولة لتشكيل ائتلاف حكومي. وقال الغنوشي إنه يحيي تجمّع مجموعات من الشبان للدفاع عن أحيائهم، لكنه قال إنه يؤكد لهم أنه سيتم تعزيز أمنهم. وأضاف أنه في خدمة الشعب التونسي وأن تونس لا تستحق كل ما يحدث وأن لا بد من استعادة ثقة المواطنين في الحكومة. وقال الغنوشي في حديث آخر إلى قناة «الجزيرة» إن بإمكان المعارضين والمنفيين التونسيين العودة إلى البلاد الآن. وقال إن «بوسع كل المعارضين السياسيين المهجرين العودة إلى بلدهم، من دون أن يتعرضوا لملاحقات قضائية أو تضييقات». وأكدت «الجزيرة» أنه «كان يشير بوضوح إلى ناشطي حركة النهضة بمن فيهم رئيسها الحالي راشد الغنوشي، الذي قد يعود قريباً إلى تونس، وفقاً لمصدر إعلامي».