هل حدث لك أن حصلت على شيء مجاني ولم تكن راضياً؟ إذاً عليك تتبع ما يتداوله الداعون إلى «فريميوم» Freemium. وتتكوّن هذه الكلمة من مزيج كلمتين إنكليزيتين هما «فري» Free، بمعنى مجاني، و «بريميوم» Premium، بمعنى المنتج العالي الجودة والمرتفع السعر أيضاً. ربما يصعب إيجاد مزيج مماثل باللغة العربية، واذا حصل فسيكون شيئاً مثل «مجيّد»، من كلماتي «مجاني» و «جيّد»! نظام إقتصادي للمعلومات أُدخِل مصطلح «فريميوم» إلى عالم التقنية الرقمية من قِبل فريد ويلسون عام 2006، بهدف وصف نظام إقتصادي بدأ يظهر على الإنترنت. وينطلق هذا النظام من الفكرة التي نلخصها بإعطاء المستخدم جزءاً من المحتوى (معلومات، كتب، صوت، صورة، فيديو، ألعاب...) في شكل حرّ ومجاني، وأن نقترح عليه أيضاً نوعاً آخر من المعلومات (أو المحتوى عموماً) يكون أكثر تطوراً أو شمولاً، أو أنه يمتلك ميّزات ووظائف أكثر من النوع البسيط والعام، ولكن لقاء دفع ثمن ما. وبذا، يكون الهدف من ال «فريميوم» هو إعطاء إمكانية للمستخدم بأن يجرّب أو يقرأ جزءاً معيناً من ألبوم موسيقي أو نص، وإذا أعجب به يشتري المنتج كاملاً. وفي مثال آخر، إذا أردنا أن نفتش عن معلومة ما في كتاب رقمي، نحصل على بضع صفحات منه، أو المقدمة مع أحد الفصول، فإذا أعجبنا ما قرأنا، نشتري الكتاب كاملاً. هذا المنحى الجديد هو ما اتجهت إليه معظم الصحف الغربية أخيراً بغية التفتيش عن طرق جديدة للربح، خصوصاً بعد أن تدنى مستوى بيع الصحف الورقية لأسباب شتى من بينها كثافة إنتشار الإنترنت غرباً. ولجأت معظم الصحف إلى صيغ مختلفة في تجسيد مفهوم ال «فريميوم». ويضع بعض الصحف مجموعة من الصفحات والمعلومات ويتركها مفتوحة بصورة مجانية، فيما يحتفظ بالتحليلات الدسمة والمواضيع الحساسة ونصوص الكتاب الاستراتيجية ومواد الأرشيف وغيرها، لمن يدفعون ثمنها. تبقى المشكلة في الفريميوم هو كيف تختار الجهة التي تنتِج المحتوى، ما تريد أن تبثّه مجاناً على الإنترنت، وما تفضّل تقديمه لقاء ثمن محدّد. والحق أن الهدف من الفريميوم أن يتولّد عند المستخدم شعور بعدم الإشباع مما يقدّم له مجاناً، إضافة الى جذبه الى الموضوع الذي قرأ شيئاً ما عنه، وبالتالي توليد الرغبة في قراءة المزيد. بذا، يندفع الجمهور إلى الإستهلاك أكثر، والتفتيش عمّا هو أفضل. ففي صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية مثلاً، هناك ثلاث مساحات مختلفة على موقعها الإلكتروني. خُصّصت الأولى لخدمة «كونكت» (connect) أو «إتّصل» وهي مجانية. وتحمل الثانية شعار «سيليكت» (select) أي «إختر»، وتكلفتها 8 يورو شهريّاً. وتنفرد المساحة الثالثة بتقديم المواد ذات الجودة العالية، بتكلفة خمسة عشر يورو شهريّاً، ولذا تحمل اسم «بزنس» (business)، وتتوجّه إلى إلى رجال الأعمال. وبقول آخر، مع الفريميوم تصبح الإنترنت بمثابة «سوبر ماركت» للمعلومات، يختار منها الأفراد بحسب حاجاتهم وموازناتهم وإمكاناتهم. بديهي القول ان هذا التوجه يطرح إشكاليات عدّة، أوّلها إنه أصبح متعارفاً عليه أنّ للمعلومات ثمناً للإنتاج وللبيع كباقي السلع، ولكن ما هي المعايير التي سيعمل بها لتسعير معلومة ما؟ ثانياً، لن يعود باستطاعة أصحاب الدخل البسيط إلا الحصول على المعلومات المجانية أو شبه المجانية. وتتصف هذه المعلومات بأنها عامة يغيب عنها طابع الدراسات والأبحاث والعمق. ونموذج المعلومات المجانية هي الأخبار التي نراها على جهاز التلفزة والتي غالباً ما ينظر إليها باعتبارها سطحية وغير متعمّقة. ثالثاً، هناك ضرورة لإيجاد بعض السُبُل لحل الإشكاليات بين محركات البحث والمؤسسات الإعلاميّة، عبر الإتفاق على كيفية معالجة الإعلانات على صفحات شبكة الويب، إضافة إلى وضع معايير مشتركة لمراقبة عرض المعلومات، كأن تكون المعلومات المجانية مرفقة بإعلانات، قد تخلو منها مساحات المعلومات المدفوعة. وإذ ينظر إلى المعلومات الصحافية باعتبارها ذات قيمة مادية غالباً، كما أنها تصدر عن مؤسسات تسعى لتحقيق الربح، فلن يعود باستطاعة مُحرّكات البحث عرض الصحف وموادها مجاناً، خصوصاً إذا حقّقت هذه المُحرّكات أرباحاً من تلك المواد الصحافية. رابعاً، يجدر بمواد الفريميوم أن تساير التطوّر نحو التطبيقات المخصصة لغير الحواسيب التقليدية، بمعنى التواؤم مع مفهوم «الحوسبة المتنقلة»، التي تظهر على منصّات متحركة مثل الهواتف الذكية (نموذجها «أي فون»). وقد عمدت بعض الصحف غرباً إلى إدماج إشتراكها ضمن الاشتراك بهاتف «أي فون». الصحافة ومتغيّرات التكنولوجيا تؤدي هذه الأشياء إلى القول ان الصحافة تعيش حالاً من التحولات الجذرية في نشاطاتها وأعمالها التحريرية ونظامها الإقتصادي، ما يذهب أبعد بكثير من مسألة «مجاني» أو «مدفوع». فمن المتوقّع أن تؤدي التكنولوجيا إلى تغيير في نظام العمل، ما يستوجب إعادة هيكلة المؤسسة الصحافية بأقسامها ودوائرها وتوزيعها وبيعها. ومن المُرجح أن يسود توجّه ريبورتاجات عالية الجودة، بحسب ما ذهبت إليه دراسة لل «المجموعة الاستشارية للميديا العالمية المتجددة» قُدّمت خلال الندوات العالمية للصحافة عام 2009. وتمحورت هذه الدراسة حول «المحتوى الذي يؤمّن الربح»، بحسب كلمات المجموعة. وخلصت الدراسة عينها للقول إن الناس لا يهمّهم قراءة ما سمعوه على التلفاز البارحة، بل على الصحافة أن تبدأ بخلق محتوى مختلف من خلال التحقّق فيه. وبذا، تبقى الأخبار العامة والرائجه مجانية مع تغطية تكاليفها من طريق الإعلانات، أمّا الأرشيف والمحتوى العالي الجودة فيقدّم لجمهور الإنترنت لقاء ثمن. وبما أنّ معظم الصحافة ما زالت توحي بأنّها مصدر للصدقيّة، فسيدفع الزبائن مقابل محتوى له طابع عميق ومثير للإهتمام، مثل الدراسات والتقارير المفصّلة حول مواضيع لا يكفي الخبر البسيط لتغطيتها، على غرار أسعار العقارات، الطب البديل، الإحصاءات السكانية، والانتخابات المثيرة للجدال وغيرها. ويترافق ذلك مع تغيير أساسي في الصحافة التي لن تكتفي بالقرّاء، بل ستسعى للوصول الى جمهور المشاهدة بصرياً عبر الإنترنت. وتتعدّد آليات الفريميوم لخدمات الصحافة أو غيرها. وتشمل الخدمات التي تحدد مدة الاشتراك للوصول إلى المعلومات، واستخدام برنامج تطبيقي معين لوقت محدّد، وتقييد الإمكانات الوظائفية في بعض الخدمات المجانية؛ كأن تكون الخدمة جيدة ولكن غير كافية. ويظهر مثال عن الحال الأخيرة في برامج الترجمة الآلية، التي يختلف المجاني منها عن البرامج التي تباع وتشترى، إذ يتمتع المباع بجودة أفضل، لكنه مُكلف لأنّ معطياته اللغوية أغنى وأعمق. وتشمل آليات الفريميوم أيضاً، تحديد عدد مستخدمي المنتج الذي يعطى للمؤسّسات، كأن تعطى براءات التشغيل لعدد محدود من الحواسيب في مؤسسة ما. ومن الآليات عينها، النسق الرقمي الذي يوضع به محتوىً مُعيّن، ما يغري بشرائه في «أصله» غير الإلكتروني، مثل وضع الكتب الإلكترونية في نسق «بي دي أف»، ما قد يدفع البعض إلى شراء النسخ الورقية، أو عرض أغنية من إلبوم للإغراء بشراء القرص المدمج الذي يحتويه وغيرها. ويندرج في السياق عينه، نُظُم المصادر المفتوحة التي تعطي الخدمات والمعلومات مجاناً، ولكنها تشترط الدفع للصيانة والتدرّب على آليات فعّالة في العمل. وأخيراً، يأتي النشر الإلكتروني المجاني في هذا السياق، كي يجذب أعداداً كبيرة من المستخدمين إلى مواقع رقمية للنشر، وتراهن هذه الأخيرة على الإعلانات في الحصول على الأرباح. تجدر الاشارة الى أنّ مشتركي الفريميوم سيبدأون بخلق مجموعات شبكية، على غرار الشبكات الإجتماعية، ليعبّروا عن انتمائتهم الى هذه الأجواء تحديداً. أمّا في العالم العربي، فإن الصحافة التي تتماشى مع هذا النوع من الخدمات، ما زالت قليلة العدد، بل ربما معدومة. ويندرج في أسباب هذا الأمر طبيعة العمل الصحافي، وانتماء الصحيفة والاعلام الى مؤسسات رسمية وشخصيات سيساسية تدعمها مادياً وتسيطر على آرائها اعلامياً، ما يجعل مسألة الربح ثانوية تماماً. * أكاديمي لبناني