باستغراب يقارب الذهول تابعت ما تيسرت لي متابعته من حلقة «خليك بالبيت» (تلفزيون «المستقبل») التي تمحورت حول ملابسات الديوان الأخير لمحمود درويش والتي استضاف خلالها الشاعر والإعلامي زاهي وهبي كلاً من أحمد درويش، شقيق الشاعر الراحل، وجواد بولس، محاميه. لم أستطع ليلذاك أن أتابع الحلقة بكاملها لأنني كنت جالساً في صالون مطار بيروت منتظراً اقلاع الطائرة التي تقلني الى الجزائر للمشاركة في مهرجان شعري دعت اليه وزارة الثقافة تحت عنوان «القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009». وحين نودي على الركاب للالتحاق بالطائرة المتأخرة قليلاً عن موعدها كانت الحلقة في منتصفها تقريباً. لكن ما تناهى الى مسامعي من لوم وتقريع واتهامات تلطفها أحياناً نبرة العتاب وتصل أحياناً أخرى الى حد «التخوين»، وهي لازمة شائعة في الأزمنة العربية الأخيرة. وكان نصيبي من «مضبطة الاتهام» تلك هو الأوفر والأكثر تجنياً وإِيلاماً، لا لشيء بل لأنني تجرأت على رفع الصوت ضد الجناية الحقيقية التي ارتكبت بحق أحد أكبر الشعراء العرب المعاصرين وأبعدهم دوياً وتأثيراً. على أن ذلك كله لم يدفع بي الى الرد المتسرع على ما سمعته، حتى لو كان بين يدي من المقدمات والعناصر المتوافرة ما يكفي لدفع التهم ودحضها بالكامل، بل انتظرت أياماً بعد ذلك لكي أتمكن من متابعة الحلقة كاملة بعد عودتي من السفر بحيث كنت قد كلفت أحد الأصدقاء بتسجيلها على اسطوانة مدمجة. ولم يتغير الأمر كثيراً بالطبع حيث كان الجزء الثاني من الحلقة مختصاً بناشر الديوان الذي يستطيع أن يناقش بنفسه ما لحقه من تهم تتعلق بطريقة النشر وتقنياته وأخطائه المطبعية وخلاف ذلك، ومن ثم عودة أخيرة للإجهاز على من أشعل فتيل الأزمة، وهو بالطبع كاتب هذه السطور، الذي «أطلق الرصاصة الأولى في حق هذا الديوان بعد يومين فقط على صدوره وقبل أن يراه أحد في العالم» وفق التعبير الحرفي لجواد بولس. كان يمكنني بالطبع أن لا أرد على حفلة التجريح والتشكيك تلك بعد أن استنفد الموضوع نفسه منذ شهرين ونصف من الزمن ودخل على خط الردود والردود المضادة على مقالتي الأولى في «الحياة» المنشورة تحت عنوان «عندما لا يضع محمود درويش اللمسات الأخيرة على ديوانه» عشرات الكتّاب والشعراء والنقاد في العالم العربي. ولكن حجم المغالطات الواردة وتحريف الحقائق في شكل مؤلم وشعوري في الوقت ذاته بأن جمهور الشاشة الصغيرة الواسع قد يتعرض للتضليل وسوء الفهم، خصوصاً أن معظمه قد لا يكون متابعاً للسجال الصحافي قد دفعاني مرة أخرى للتذكير بالحقائق المغيبة والتي لا يريد البعض، ولأسباب ما زلت أجهلها حتى الآن، الاعتراف بوضوحها الناصع. ومع ذلك فإن الرد لن يستقيم من دون اطلاع القارئ الذي لم تتسن له مشاهدة «خليك بالبيت» في «ليلة القبض على الشاعر» متلبساً بتشويه سمعة الشاعر الراحل، الذي انتبه جواد بولس أحياناً الى صلة الصداقة التي تربطه به، على بعض ما ساقه الضيفان من تهم وما ورد على لسانيهما في شكل حرفي. ففي رده على سؤال زاهي وهبي حول مقالتي الأولى في «الحياة» يقول بولس بأنه «كان أجدر بالشاعر شوقي بزيع أن يتحدث عن الكتاب بمنطق ايجابي ويعطي محمود درويش المكانة التي أشار اليها في شكل هامشي». ثم يعود للقول «إن الأهم في الموضوع ليس الأخطاء المشار اليها سواء كانت صحيحة أم لا انما الهدية العظمى التي يهديها الينا درويش». ثم يضيف في مكان آخر أنه كان علينا، بصيغة الجمع هذه المرة، «أن نتوجه للكاتب الياس خوري أو للناشر أو لمعد الكتاب بدل التوجه الى الإعلام وكأني بهم أرادوا أن يقتلوا الديوان». وفي مكان ثالث يقول مصعِّداً وهازئاً «ان من يحاول الدخول الى جرح محمود درويش انما يريد لنفسه أن يكبر وليس لمحمود أن يصغر». وفي مكان رابع ان شعر درويش «لا يحتاج الى مصححين أو معدِّلين أو الى لجنة من المستشارين لأن هذا النتاج ليس لطالب عادي في كلية الآداب». وفي مكان خامس يقول مهدداً ومتوعداً أن لا أحد على وجه البسيطة يستطيع أن يتدخل في قصائد درويش دون إذن قانوني، مردفاً أنه مستعد شخصياً للاشتراك في التعديلات والتصحيحات اللازمة. وفي مكان سادس يتساءل رداً على اقتراح الناشر بتأليف لجنة من كبار شعراء التفعيلة لدراسة المخطوط الأصلي وتنقيحه «من هم كبار الشعراء الذين يطالون قامة محمود درويش؟». وفي مكان سابع يتساءل حائراً ومتعجباً من امكانية أن يكتب شوقي بزيع مقالة نقدية موضوعية بعد يومين لا أكثر من صدور الكتاب. وإذ أجدني ولمرة جديدة مرغماً على درء مثل هذه التهم الباطلة عبر توضيح بعض النقاط أود أن أسجل في هذا الخصوص عتباً مشوباً بالمرارة على الصديق زاهي وهبي الذي لم يكتف بإقامة مباراة غير عادلة من طرفين أحدهما غائب بالكامل بل انه لم يحاول الدفاع من موقع العارف بحقيقة الأمور عن الطرف الغائب متراجعاً حتى عن مقالته في «الحياة» التي نقل فيها ما قلته عن درويش بأنه «شاعر ممسوس بالإيقاع» وبأن ديوانه الأخير على رغم الأخطاء هو أحد أجمل دواوين الشعر الحديث. كما انني إذ أعزف عن الرد على أحمد درويش في ما يتعلق بعداوات الشعراء وضغائنهم وحساباتهم الضيقة، احتراماً لحزنه العميق ولخسارته الفادحة، أرغب في تسجيل النقاط الآتية: أ - كيف أمكن جواد بولس أن يفتح احدى عينيه على ما يتعلق بالأخطاء الواردة في الكتاب المطبوع ويغمض العين الأخرى متجاهلاً كون نصف مقالتي المنشورة في «الحياة» مخصصاً بالكامل لتقريظ الديوان والإشادة به حيث يرد في مطلعها أن الشاعر «لم ينم على حرير النجومية ولم يستسلم لإغوائها وأنه كان يحقق مع كل مجموعة جديدة قفزات دراماتيكية على مستوى الخطاب والمعنى والمقاربة الإنسانية كما على مستوى الشكل والبنية وأدوات التعبير بحيث بات على النقاد أن يركضوا لاهثين وراء تحولات الشاعر وخطواته المتسارعة». وليس هذا المقطع غيضاً من فيض المقالة فحسب بل ان المقالة نفسها هي واحدة من عشرات المقالات التي سبق أن كتبتها عن تجربة الشاعر المميزة. ب - إذا كان الإنسان هو محصلة تاريخه الشخصي فلن يجد بولس وسواه سوى سجل حافل بالصداقة لا مع درويش وحده بل مع قضيته العادلة منذ أولى الاجتياحات الإسرائيلية للجنوب مروراً بحصار بيروت الذي واجهناه معاً خلال أشرس الظروف ووصولاً الى حرب تموز التي ألحقت قريتي المهدمة في الجنوب اللبناني بعشرات القرى الفلسطينية التي جرفها الاحتلال وأزال معالمها بالكامل. ج - حين كتبت ما كتبت لم يكن ذلك إلا بدافع الغيرة على شعر محمود درويش ومكانته لا بدافع التشهير والانتقاص والإساءة كما كرر بولس غير مرة. فهل أجدني في حاجة الى التذكير مرة أخرى بما أشرت اليه في المقالة الأولى حول كون الشاعر مفطوراً على الإيقاع ومجبولاً به منذ ولادته. كما أعدت التأكيد في معرض الرد على الناقدة ديمة شكر بأن الشاعر لا يخطئ في الأوزان ولكن هناك أخطاء كثيرة لا بد من أن يتحمل مسؤوليتها أحدٌ ما، الأمر الذي وجد فيه هاشم شفيق مبالغة مفرطة حيث لا أحد معصوم عن الخطأ، في رأيه، وجل من لا يخطئ. د - لا يكفي في هذا السياق أن نقلل من قيمة الأخطاء الواردة في الديوان المطبوع أو أن نخلط الأمور بعضها ببعض بحيث نرى في الإشارة اليها تشويشاً على جمالية الديوان حيث أن الأمرين مختلفان تماماً. ه - يتحدث بولس عن السرعة في كتابة المقالة التي لم يفصلها عن صدور الديوان، بحسب رأيه، سوى يومين اثنين لا يسمحان في أي وجه بكتابة موضوعية وجدية. وهي حجة واهية ومردودة لأن المسافة الفاصلة بين قراءتي للديوان وبين كتابتي عنه تزيد على الأيام العشرة، ما سمح لي أن أقرأه غير مرة تماماً كما فعل زاهي. و - كم مضحك ومؤسف القول بإن المحامي ورجل القانون يرفض أن يتدخل أحد في تنقيح مخطوط الكتاب ومراجعته تارة بحجة أن الشاعر ليس طالباً في جامعة وطوراً لأن لا أحد بين الشعراء العرب له قامة درويش لكي يسمح له بفعل ذلك. فلو طبق هذا المعيار على نقاد الشعر وقارئيه لما سمح لأحد بمراجعة ديوان المتنبي أو أبي تمام أو بدر شاكر السياب أو أدونيس أو عشرات من الكبار بدعوى أن لا أحد يوازي هذه القامات! ثم من قال بأن المطلوب هو اعادة النظر في ديوان الشاعر تنقيحاً وحذفاً وإضافة، وهو ما لم ولن يخطر في بال أحد، بل كل ما أرجوه، ويرجوه معي شعراء كثر بالطبع، أن تعاد طباعة الكتاب خالياً من الأخطاء المطبعية وغير المطبعية وبخاصة تلك المتعلقة بالعروض، وهو ما لن يتوافر إذا لم تضم اللجنة المشرفة شاعراً واحداً على الأقل متمرساً بالأوزان وعارفاً بأسرارها، فقد يكون هناك خطأ في ترتيب السطور أو المفردات الواردة في القصائد غير الناجزة يمكن اصلاحه بشيء من المعرفة والتبصر. ولو كان في المجموعة خطأ أو اثنان أو ثلاثة لهان الأمر بل ثمة وخلافاً لما رأى البعض ما يزيد عن العشرين خطأ، وهو أمر غير مقبول. ز - أضيف أخيراً أنني لست ولن أكون طرفاً في السجال القائم بين الناشر والمعد واللجنة المشرفة. وهو ما بينته غير مرة. وحين هالني ما رأيته في الكتاب المطبوع وكتبت ما كتبته لم أكن قد اتصلت بأحد سوى بقناعتي الراسخة بجسامة الخطأ الحاصل بحق الشاعر الذي أصبح في عهدة الغيب، حتى ولو تم ذلك بحسن نية وعن غير قصد. أما تمني جواد بولس بأنه كان علي الاتصال بالمعنيين قبل الكتابة فإنما كان يصح لو لم يكن الكتاب مطبوعاً وآخذاً طريقه الى التوزيع. أما وقد أصبح الكتاب في عهدة القراء فكان لا بد من التساؤل عن حقيقة ما حدث والدعوة الى اعادة اصداره في طبعة ثانية خالية من الأخطاء الكثيرة التي لم ينكر وجودها أحد على ما أعلم. فمن أساء الى محمود درويش ليس الذي يستفظع اكتظاط ديوان بالأخطاء الفادحة التي لم يفت الأوان على اصلاحها بل الذي يصر على القفز من فوقها والتقليل من شأنها، وهي ليست قليلة، ويصر، هو غير العارف بالشعر وبالإيقاعات والأوزان على أن لا يخرج المخطوط من عهدته وأن لا تظهر الحقيقة على الملأ.