منذ أيام مناحيم بيغن على الأقل، ووصوله المفاجئ إلى السلطة بإسرائيل في سنة 1977، وهناك تكتيك متكرر أمامنا. فكل رئيس لحكومة يمينية يحرص على وجود وزير مهم فى حكومته ليصبح على يمينه هو ومزايدا عليه. كانت تلك هي علاقة مناحيم بيغن مع آرييل شارون. وشارون نفسه قبيل إحدى رحلاته التفاوضية إلى واشنطن طلب من زملائه فى مجلس الوزراء أن يزايدوا عليه بتصريحاتهم اليومية طوال تفاوضه مع الأميركيين. وفي الحكومة الإسرائيلية الحالية جاء بنيامين نتانياهو إلى يمينه بأفيغدور ليبرمان كوزير للخارجية حتى يبدو تطرف نتانياهو بالمقارنة نموذجا للاعتدال. ومنذ السبعينات أيضا كانت إسرائيل تتفنن في القفز على التسوية مع الفلسطينيين باشتراط تغيير الأولويات قبل أى تفاوض. في اذار (مارس) 1978 قامت إسرائيل بغزوها البري الأول للبنان تحت شعار تفريغ الجنوب اللبناني من المقاومة الفلسطينية قبل المضي في تفاوضها مع أنور السادات. وفي 1982 قامت إسرائيل بغزوتها الأكبر للبنان وصولا إلى العاصمة بيروت وتدميراً للبنان استمر لأسابيع عدة بعد أن أقنعت إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان بأن إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من كل لبنان له الأولوية قبل التحدث عن أي تسوية. وبعد غزو صدام حسين للكويت أصبحت الإدارة الأميركية تقول إنه بمجرد إخراج الاحتلال العراقي من الكويت سينفتح الطريق فورا أمام تسوية عربية إسرائيلية. تمخض الأمر في النهاية عن مؤتمر مدريد. الآن تغير حكومة نتانياهو الموضوع من جديد. وفي اللقاء الأخير لرئيس وزراء إسرائيل مع الرئيس الأميركي باراك أوباما دعا الأول الأميركيين إلى إرجاء معالجة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي واستبداله بأولوية مواجهة الخطر الإيراني بحجة أنه خطر على إسرائيل والدول العربية المعتدلة معا، في تطور رأى أنه يجري بالمنطقة للمرة الأولى. ثم زاد عليه وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان قبل أيام بقوله إن المجتمع الدولي لا بد أن يبذل قصارى جهده لمنع إيران وكوريا الشمالية من تحقيق طموحاتهما النووية. الإدارة الأميركية رفضت هذه المرة إعطاء الأولوية لضرب إيران عسكرياً قبل المضي في تسوية فلسطينية - إسرائيلية، مقررة إن العكس تماما هو الصحيح. فإيجاد حل ممكن ودائم للقضية الفلسطينية هو الذي سيضمن انحسار التشدد الإيراني وإضعاف الجماعات العربية المؤيدة لها. وقرأنا أخيراً في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية دراسة بعنوان «قراءة مضللة للخريطة: الطريق إلى القدس لا يمر بطهران»، في إشارة إلى أن حل القضية الفلسطينية لا يقتضي تسوية الملف النووي الإيراني أولا. وأضافت الدراسة ان بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل أعلن بوضوح أن شيئاً جديداً لم يشاهده في حياته أبدا يحدث الآن فى الشرق الأوسط، وهو أن العرب واليهود يرون تهديداً مشتركاً، في إشارة لإيران. لكن الترويج لتماثل رؤية إسرائيل لإيران مع رؤية دول عربية أصبح وهما آخر تروج له إسرائيل.. ليس حبا بالعرب ولكن فقط لتغيير الموضوع لتصبح إيران هي الخطر العاجل. إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تطرح حتى الآن رؤية شاملة للتسوية حتى في مستواها الفلسطيني. فقط تابعنا الرئيس أوباما يتحدث عن حل الدولتين ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون خلال مؤتمرها الصحافي مع نظيرها المصري أحمد ابو الغيط تعلن أن الرئيس أوباما كان محدداً وواضحاً في طلبه من رئيس الوزراء نتانياهو وقف التوسع في المستوطنات الإسرائيلية. هذه بحد ذاتها ليست مواقف جديدة. جورج بوش أعلن حل الدولتين منذ 2002، ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس كانت آخر مرة تحدثت فيها عن ضرورة وقف المستوطنات في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، يعني قبل انتهاء ولاية الإدارة بشهرين، إنما كله كان كلاماً في كلام حتى إشعار آخر. والآن يتحايل رئيس وزراء إسرائيل على الطلب الأميركي القديم - الجديد بوقف الاستيطان قائلا لأعضاء كتلة حزبه «الليكود» البرلمانية إن الملف الإيراني هو الملف الأول الذي توليه حكومته الأولوية «حتى لو كان الثمن هو اضطرارنا لإخلاء البؤر الإستيطانية». دعمه فى ذلك وزير دفاعه وزعيم حزب العمل إيهود باراك بدعوته إلى إخلاء 22 «بؤرة» استيطانية «غير قانونية» خلال أسابيع. هذا التحايل يلتف على حقيقة أنه توجد فى الضفة الغربيةوالقدس حاليا مئة وستون مستوطنة، وأن الحديث عن تجميدها ليس هو الشيء المساوي نفسه لحقيقة أنها غير شرعية من الأساس باقرار أميركي مبكر ومعلن قبل التراجع عنه. بعد اجتماعات أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر في واشنطن أخيراً صرح من هناك بأن مصر أبلغت الإدارة الأميركية ب «الرؤية المصرية المتكاملة» لعملية السلام في الشرق الأوسط وفي مقدمها الدولة الفلسطينية والوقف الفوري والكامل للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وحل كل المشاكل العالقة بين الجانبين فيما يتعلق بالوضع النهائي - الحدود والقدس واللاجئين والمياه - في ظل جدول زمني محدد المدة. في اليوم نفسه كان بنيامين نتانياهو يعلن أمام الكنيست الإسرائيلي عن مقاربة جديدة لحل الصراع العربي - الإسرائيلي ترتكز على ثلاثة أعمدة: إشراك الدول العربية في تعزيز السلام ومنح الاستقرار لنا وللفلسطينيين في إطار تسوية إقليمية تعني قيام دول عربية من الآن بالمضي قدماً في التطبيع مع إسرائيل. من ناحية أخرى هو يتحدث أيضا عن «وضع مشاريع اقتصادية للسلطة الفلسطينية. وهناك فرصة لجلب استثمارات من طرف ثالث كأوروبا وآسيا والعالم العربي». أخيرا تحدث بعمومية عن «دفع العملية السياسية مع الفلسطينيين». لا تحتاج المسألة هنا إلى انتظار الشيطان في التفاصيل. إسرائيل لا تريد فقط ثمناً لبضاعة ليست ملكها أصلاً. هي تريد ثمناً للبضاعة نفسها عشر مرات، ومن أطراف إضافيين في كل مرة. إسرائيل تدمر قطاع غزة لكي تجيئ أوروبا وتدفع لها فاتورة التعمير. وهي تريد مشاريع اقتصادية للفلسطينيين لكن بتمويل عربي يمر أولا على خزائنها ويمضي تحت إشرافها. ثم هي تريد فوق هذا وذاك تطبيعاً من دول عربية إضافية يقول رئيس وزراء إسرائيل إن الرئيس الأميركي يدعمه فيه. الأسوأ مما تريده إسرائيل هو أن يتم استدراجنا نحن إليه. فأخيراً - وهذا مجرد نموذج - رشحت مصر وزيرها للثقافة ليصبح مديراً لمنظمة اليونيسكو. إسرائيل قالت إنها لن تصوت لصالحه، وتابعنا مقالتين أو ثلاثاً فى باريس ضد هذا الترشيح بحجة أن الوزير المصري قال ذات مرة ضمن مناقشة برلمانية إنه لو استطاع لأحرق الكتب العبرية التي عرفت طريقها إلى المكتبات المصرية. من تلك الجملة.. يا داهية دقي. الوزير شرع فورا في إثبات حسن نياته لإسرائيل.. وبأثر رجعي. الوزير دعا أيضا الموسيقار الإسرائيلي دانيال بارينبويم ليقود الفرقة السيمفونية المصرية في احتفال غير مسبوق في دار الأوبرا في القاهرة. الوزير قال وكرر إنه لم يقصد الإساءة، مؤكداً ذلك فى مقال نشرته له جريدة «لوموند» فى باريس بعنوان «رسالة إلى العالم» أعرب فيها عن أسفه لإعلانه في العام الماضي أنه على استعداد لحرق أي كتب بالعبرية في المكتبات المصرية.. والآن «أريد أن أعرب عن أسفي لكل ما قلته... فهذه الكلمات تتناقض مع شخصيتي وقناعاتي». فوق هذا وذاك نشرت جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية في 25/5/2009 خبرا يقول إن إسرائيل وافقت على سحب اعتراضها على انتخاب السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري مديراً لمنظمة اليونيسكو، وذلك ثمرة لاتفاق بين الرئيس حسني مبارك ورئيس الوزراء نتانياهو أثناء اجتماعهما في شرم الشيخ يوم 11 آيار (مايو) الجاري. وأضافت إن مسؤولاً كبيراً في مكتب رئيس الوزراء نتانياهو صرح بأن تلك كانت صفقة تبادلية، وإن مصر ستتجاوب مع القرار باتخاذ خطوات أخرى من جانبها « فيما يعتبر مقابلاً جيداً وملموساً». الأسئلة هنا متلاحقة. من قال أصلاً إن إسرائيل أصبحت قوة عظمى لها حق الفيتو على الترشيحات لليونيسكو؟ وبافتراض أنها اعترضت، فما قيمة هذا الاعتراض؟ وحتى بافتراض أن المرشح المصري لم يحصل على المنصب في النهاية، فما الذي ستخسره مصر؟ وحتى لو نجح، ما الذي ستكسبه مصر؟ ماذا كسبت مصر أصلا من أربع سنوات قضاها بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة؟ ضربت مثلا بهذا النموذج لكي لا تفاجئنا طلبات إسرائيل المستجدة بالتطبيع عربياً وإسلامياً قبل الحديث عن تسوية مع الفلسطينيين، ولكي لا نضيف لإسرائيل قوة أخرى سياسية تضاف إلى قوتها العسكرية التي يبدو أنها لم تعد تزعجنا. * كاتب مصري