من منّا لم يقع - يوماً ما - فريسة استلاب الأشياء التي تخصه وتعنيه، حتى تحكم هذه الهواجس الموشاة بالسحر قبضتها على مكمن التخيل لدى الذات، فتنصهر مطواعة بين يدي التأويل الحدسي، وتنتظم على جدار حديث النفس وتراكيب المخيلة؟ يحدث أن ينتابك قلق ذاتي متفجر، يومئ لك بأسئلة غاية في العمق تبحث في كنه أشيائك الخاصة، وكيف تنتظم هيئتها مسافرة منك نحوك، أو منعتقة من قيدك ترنو نحو الآخر، نحو المساحات الرحبة، نحو التشكيلات النهائية، والصور المكتملة.. في نص «دماء الفيروز» لطلق المرزوقي، تتجلى مساءلة المُلكية، حيازة الشيء وكشف غطاء اعتماله في معامل الذات الإبداعية، يجلي لنا الكاتب أسلوب تعرية المفاعيل النفسية، وكيفية تجريدها ثم استنطاقها مرة أخرى لتبوح بسر تشكلها، وبمساراتها التكوينية، وكيف تتفاعل الذات باعتبارها آخر للصنعة الذاتية المُنتزعة - بفعل سؤال الكيف – من حوزة مبدعها. يرتكز نص «دماء الفيروز» للمرزوقي، على قيمة الابتكار، ليس ذلك فحسب، بل إن الكاتب هنا يُساءل هذه القيمة من خلال أداة السرد والسرد فقط، ليطلق من خلال نصه القصصي رؤاه المحيرة، ويستنطق من خلال الحبكة سراً طالما ظل يشغله ويؤرق منامه، فتقول الحكاية إن ثمة رجلاً ما، أعياه السهد واختلطت عليه تراكيب المنام، في ليلة تجلى فيها ضوء القمر النافذ من خلال ستائر الليل، حتى نجح هذا الضوء الشفيف في استنطاق السواكن، وبث الحياة في تفاصيل المكان، وبينما يتنقل هذا الرجل الحائر بين النوم واللا نوم، إذ بتمثال (شهرزاد) المنتصب بقربه يتحدث ويبين، هذا التمثال الذي شكّله إزميل ذات الرجل الذي لم يبدِ جزعاً أو يقظة ذهول، حال نطق (شهرزاد) المغوي، فظلت (شهرزاد) الرمز، تحكي إلى الحد الذي يُباح لها فيه أن تحكي، وهنا وفي خضم هذا الحدث الأسطوري، تتجلى ابتكارية المرزوقي في مساءلة (مُلكيته) الذاتية، وحيازته المقررة، حيث يمتلك طلق المرزوقي أداة السرد، التي أراد أن يجسدها في سرد طقوسي متتالي، متعمداً هذه الطقوسية عن سبق قصد، إذ إن مساءلة الملكة الداخلية، وهي أداة الكاتب، لا تتأتى إلا بفعل باطني موغل في الأسطورة، يقوى على كشف أغوار المكنون، ويؤتي نجاعة فذة في استنطاق فعل حسي حدسي بامتياز. أراد المرزوقي في هذا النص، أن يستشف فعل الحكاية المخبأ في دواخله السحيقة، وكيف تنتظم تفاصيل أداته وتستقر حال ممارسته لفعل الكتابة السردية، أراد أن يكتشف خبايا هذه الموهبة التي أودعت في ذاته، فانتدب ( شهرزاد ) رمز الحكاية والحيلة، وتعمد صنع مسوغ وجودها وحضرتها، بفعل النحت الذي يشير لحيازة الأداة، وفعل الإبداع والقبض على مساراته، فكانت وبلا شك منحوتة بقرار ذاتي، وبصنعة مسبقة، تشي بدورها المرجو والمُنتظر، حيث إن الكاتب تيقن أنه يستحيل عليه أن يسائل مكنونه، إلا ان بدا له هذا المكنون متجسداً للعيان، وفي متناول الحس الحقيقي، ولكنه في ما بعد عندما قرر أن يستنطق أداته ومكنونه كقاص، هيأ لهذا النطق شعائره الطقسية، فأرسل ضوء القمر الشفيف الذي يتسلل بخفة ولطف، ثم أودع بطله في حال وسطية، بين النوم والصحو، حتى يأتي الصوت الرمزي عابراً بأمان، بين ثنايا الاستفاقة والخدر، وبهذا تتمكن عرى هذا الحديث الذي باحت به (شهرزاد) في صميم اللاوعي الإبداعي على كل أصعدة التلقي، سواء كان ذلك في ما يخص الكاتب ذاته، أو في ما يخص القارئ الذي سيستجيب لنداء شهر زاد القادم من عمق التاريخ الذي يؤسس لرمزية الحكي والحكاية؛ وتتاح الفرصة بالتأكيد لتجلي المخبوء في رحم المرموز وهو فعل الكتابة القصصية، أو بتعبير آخر، قالب الحكاية الماضية في فعل الحكيّ والمسامرة. هنا يستحث طلق المرزوقي في (حكايته – دماء الفيروز)، كل مفاصل الحكاية التي تغوص في أعماق ذاتها المُبتكرة، فيستحيل النص ذاتاً وموضوعاً في نفس الوقت، حيث إن الحكاية تأخذ شكلاً دائرياً – وإن عنون الكاتب مقاطعها بأنماط طقوسية مختلفة – إلا أن الحكاية / النص، تستفز في جميع أطراف العمل الإبداعي، بداً من الكاتب، ثم (الذات / الموضوع) في تشكيل الحكاية، وانتهاءً بالقارئ، الذي سيستجيب، لمقصد النص، فيرتد لذاته فيساءل أشياءه ويبتكر صيغ استنطاقها، كما نجح طلق المرزوقي في استنطاق أداته السردية من خلال شهرزاد التي هي ضمير الحكاية المتكلم، ورمز الرواية كفعل شفاهي، وكأن الكاتب هنا ينجح أيضاً ضمن دائرته الخاصة، في التنقيب عن مفاعيل صنعته الذاتية، كأنها – هذه الصنعة – تعن عليه مراراً، أو تشكل له هاجساً أو صراعاً، يرنو لفتح مغاليقه لتستنير له أعماق صنعته، وتنتصب أمامه شاخصة عارية من كل خلل، علها تسمح له بولوج عوالم قصية في حرفته الذاتية، لتنتظم بعد ذلك في قوالب إبداعية، لا يخفى عليه منها ما يعكر صفو انسيابها.