الشيء بالشيء يذكر، وقد أعاد إليّ مقال في صحيفة لندنية ذكريات عن فترة مهمة من عملي الصحافي. الصحافي البريطاني المعروف باتريك كوكبرن كتب مقالاً في «الإندبندنت» في 29 من الشهر الماضي عنوانه «فضيلة قول الحقيقة للسلطة»، بدأه بقصة عن أبيه كلود كوكبرن الذي ترك «التايمز» سنة 1933 ليصدر مجلة، أو نشرة سياسية، راديكالية باسم «ذي ويك»، أي الأسبوع. وحكى الابن عن أبيه أنه وجد صعوبة في اكتساب قراء ومشتركين في مطبوعته التي استدان 40 جنيهاً من صديق لإصدارها، وهو بدأ يخشى أن يضطر الى إنهاء مشروعه لولا أن رئيس الوزراء في حينه رامزي ماكدونالد، تدخل من دون قصد طبعاً، وأنقذ كلود كوكبرن ومجلته. كان ماكدونالد نظم مؤتمراً اقتصادياً دولياً في المتحف الجيولوجي (علم طبقات الأرض) في محاولة يائسة لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى، وكتب كوكبرن في مجلته المجهولة ان المؤتمر ولد ميتاً. وردّ رئيس الوزراء بعقد مؤتمر صحافي هاجم فيه كوكبرن و «ذي ويك» واتهم الصحافي بأنه نذير شؤم وينشر أخباراً كاذبة. وكانت النتيجة ان الناس بدأوا يفتشون عن المجلة ويطلبونها فاشتهرت وانتشرت واستمرت سنوات. هذه القصة حفّزتني على كتابة قصة مشابهة من تاريخ جريدة «الشرق الأوسط» التي كنت أول رئيس تحرير لها، أضعها بتصرف أي زميل قد يكتب في المستقبل تاريخ «الشرق الأوسط» وما أنجزت. فكرة إصدار جريدة عربية من لندن طلع بها الأخ هشام حافظ، رحمه الله، وأيدها الأخ محمد علي حافظ بحماسة، وكان الأمير فهد بن عبدالعزيز، ولي العهد في حينه والملك بعد ذلك، رحّب بالفكرة عندما عرضها عليه الأخوان، ثم فترتْ حماسته. وأنقذ الموقف قدومه، رحمه الله، الى لندن في زيارة رسمية، في ربيع 1978، إذا لم تخني الذاكرة، وأصدرنا أعداداً تجريبية يومية ليقرأها ولي العهد ويتعرف الى المشروع الصحافي الذي نحن في سبيله، وأسجل هنا الفضل الكبير في صدور الجريدة (مع آخرين طبعاً) للشيخ فيصل الحجيلان، السفير السعودي في لندن في حينه، ووكيل وزارة الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، وزير الإعلام الحالي، فكل منهما قام بدور مشكور في الترويج للجريدة عند ولي العهد، وجاءت الموافقة الشفهية على الصدور في مطار لندن والأمير فهد ينهي زيارته الرسمية. كنا في البداية انفردنا بخبر مهم جداً هو نشرنا تفاصيل تشكيل القيادة المركزية (للشرق الأوسط)، وكتب الخبر الزميل بوب لبلنغ، مدير مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن، الذي عمل معي في «الديلي ستار» في بيروت، و «عرب نيوز» في جدة، وأنا أرأس تحريرهما، وهو لا يزال يعمل في أرامكو ويفضل بلادنا، لسبب غامض، على أي بلد آخر. «الخبطة» الصحافية الأولى مضت وكنا نبحث عن وسيلة لإذكاء الاهتمام بالجريدة الجديدة عندما انفجرت في وجهنا قصة كامب ديفيد والسلام بين مصر واسرائيل. وكان رئيس مكتب القاهرة الزميل العزيز صلاح الدين حافظ رحمه الله، وهو من أعلى الصحافيين قدرة وأرفعهم أخلاقاً، ومع وقوف غالبية كتّاب «الشرق الأوسط» ضد كامب ديفيد ومهاجمتهم الرئيس أنور السادات، فقد قرر صلاح الانسحاب، وخلفه في رئاسة مكتب «الشرق الأوسط» في القاهرة الزميل والصديق ابراهيم سعدة الذي شغل بعد ذلك منصب رئيس مجلس إدارة «الأخبار» ورئيس تحريرها. الخلاف على كامب ديفيد زاد توزيع «الشرق الأوسط» وشهرتها إلا أن ما حدث بعد ذلك كان هدية من السماء، فقد فوجئت ذات يوم باتصالات هاتفية متكررة من زملاء وأصدقاء في القاهرة خلاصتها ان الرئيس السادات عقد مؤتمراً صحافياً والى جانبه الأخ ابراهيم سعدة وهاجم «الشرق الأوسط» وموقفها من عملية السلام، وقال ان المرتّب «العالي» الذي يتلقاه رئيس مكتبها في القاهرة ليس بريئاً، وان الأمير فهد يستعمل الجريدة ضده. أعتقد أن ذلك المؤتمر الصحافي كان بقيمة مليون دولار (بعملة تلك الأيام) من الدعاية المجانية للجريدة التي أصبحت موضع اهتمام الحكومات الأجنبية والميديا. وإذا كان من شيء أفاخر به من تلك المرحلة، فهو ان «الشرق الأوسط» بقيت تطبع في مطابع الزميلة «الأهرام» وتوزع في مصر، مع منع قليل لأسباب رقابية، واننا حافظنا على صداقة جميع الزملاء في مصر التي لم أنقطع عن زيارتها يوماً. اليوم كتبت من الذاكرة، وأرجو أن أكون تجنبت الخطأ، ولكن الذي سيكتب تاريخ «الشرق الأوسط» يحتاج الى أن يعود الى الأخ محمد حافظ والشهود الآخرين على تلك الفترة، والى النصوص المنشورة وهي متوافرة. [email protected]