على رغم بشاعة التفجير الذي استهدف كنيسة القديسين مار مرقص والأنبا بطرس في الإسكندرية ومدى فداحة خسائره، وما تبعه من رد فعل رسمي وشعبي غاضب، فإن الحدث ينطوي على دلالات أمنية وسياسية وثقافية عدة لو تفحصناها بدقة لاكتشفنا الوسائل الممكنة لتلافي تكرار ذلك التفجير المروع مرة أخرى. وتكمن أولى تلك الدلالات في فتور رد الفعل الرسمي في الآونة الأخيرة تجاه التهديدات الخارجية لأمن مصر القومي. فقد سبق أن هدد تنظيم «دولة العراق الإسلامية» الوثيق الصلة ب «القاعدة» باستهداف الكنائس المصرية ما لم يتم، وفق قوله، الإفراج عن «المسلمات الأسيرات» داخل «سجون» تلك الكنائس وأديرتها، وذلك في أعقاب التفجير الذي قام به التنظيم نفسه لكنيسة سيدة النجاة في العراق في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. هذا بالإضافة إلى التصريح الأخير لعاموس يادلين رئيس الاستخبارات الحربية الإسرائيلية السابق والذي قال فيه نصاً إن مصر تمثل ملعباً رئيساً لنشاط الاستخبارات الحربية الإسرائيلية التي نجحت في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي في شكل يعجز معه أي نظام بعد مبارك عن معالجة الانقسام والوهن المتفشي في مصر. ما يعني أن الدولة المصرية كانت إزاء تهديدات واضحة ومعلنة ومعلومة المصدر باستهداف الكنائس وتصعيد حال الاحتقان بين المسلمين والأقباط، إلا أنها لم تتعاط مع تلك التهديدات في الشكل الجدي والمطلوب. فهي مثلاً لم تلوح بوقف التطبيع مع إسرائيل أو وقف تصدير الغاز لها أو حتى بمنع الإسرائيليين من حضور مولد أبو حصيرة في محافظة البحيرة على رغم الرفض الشعبي لمشاركتهم السنوية في إحياء تلك المناسبة، كما أنها لم تؤمن الكنائس في الشكل الذي يتلاءم مع تلك التهديدات الإرهابية من «القاعدة» وأذرعها المنتشرة في العالم كله. ولعل اللافت هنا أن الكنائس في الإسكندرية وفي غيرها من المدن المصرية سبق أن تعرضت لحوادث اقتحام واعتداء بالأسلحة البيضاء والنارية على المصلّين داخلها وهو ما حدث عام 2006 عندما قام مختل عقلياً، وفق الرواية الرسمية، باقتحام ثلاث كنائس وهي كنيسة القديسين (التي وقع فيها التفجير الأخير) وماري جرجس في منطقة التحرير وماري جرجس في منطقة الحضرة فقتل شخصاً وجرح 12 آخرين وهو ما تكرر أمام إحدى كنائس مدينة نجع حمادي في محافظة قناجنوب مصر في كانون الثاني (يناير) 2010 حيث أطلق مسجل خطر يدعى حمام الكموني النار على تجمع للمسيحيين فقتل 6 وأصاب 9 آخرين. وهذا ما يؤكد أن هناك خللاً أمنياً واضحاً في ما يتعلق بمسألة تأمين الكنائس في مصر، وهو خلل يتماهى مع قراءة سياسية سطحية للأزمة الطائفية، وهنا بالتحديد تكمن الدلالة الثانية لذلك التفجير، فقد عمدت الدولة المصرية منذ وقوع الحادث إلى الإشارة عبر معظم وسائل إعلامها إلى أن الحادث هو نتيجة مخطط إرهابي خارجي وجبان، ومن ثم فهو لا يرتبط في شكل مباشر بحال الاحتقان الطائفي المتفشي بين مسلمي مصر وأقباطها منذ عقود، إلا أن النظرة المتعمقة لتفجير الإسكندرية ستكشف بما لا يدع مجالاً للشك مدى عمق تلك الأزمة وتجذرها، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الثقافي والحضاري المصري. فقد جاءت تلك التفجيرات كرد فعل من تنظيم «دولة العراق الإسلامية» على إحدى الظواهر التي عكست حال الاحتقان الطائفي بين المسلمين والأقباط، ألا وهي ظاهرة إسلام زوجات الكهنة ورد الفعل عليها سواء من الكنيسة التي تحتجزهن أو من الشارع الإسلامي الغاضب على هذا السلوك من جانب الكنيسة. ومن ثم فإن وجود العامل الخارجي لا ينفي وجود احتقان طائفي بين مسلمي مصر وأقباطها بصفته أزمة سياسية تعكس الأزمة الثقافية والاجتماعية العميقة التي يعيشها المجتمع المصري. فوقوع ذلك التفجير وغيره من التوترات الطائفية في الإسكندرية له دلالة في غاية الأهمية والخطورة، فتلك المدينة كانت في حقبة ما بين الحربين العالميتين نموذجاً للمجتمع الكوزموبوليتي القادر على استيعاب ثقافات وديانات عدة واعتصارها وإعادة إفرازها من جديد بطابع مصري يعكس هويتنا الوطنية، ومن ثم فإن تصاعد حدة التوتر الطائفي يعني أن المجتمع الاسكندري أصبح مفتقداً لنموذج التعايش المشترك بين عنصري الأمة المصرية اللذين تجمعهما وحدة الثقافة والمصير، ما يشي بتراجع ثقافي وحضاري حاد تعيشه الأمة المصرية ككل، نتيجة افتقادها التوازن بين الوحدة والتنوع في الدين والذي يمثل أحد أهم مقومات البناء الثقافي والحضاري المتماسك. فالدولة المصرية مطالبة أولاً على المستوى الأمني بتأمين الكنائس وبعدم التهاون مع أي تهديد خارجي يستهدف وحدة مصر وأمنها القومي، ومطالبة ثانياً في نظرتها للملف الطائفي ككل بالانتقال من فقه الحادث الفردي إلى فقه الأزمة العامة والشاملة والذي سيقودها بكل تأكيد الى حل أكثر عمقاً لمعضلة الطائفية التي يشتبك فيها عنصر الأمن ويتماهى مع عناصر أخرى تتعلق بالوضعية السياسية والثقافية والحضارية المصرية في وقتنا الراهن والتي تتطلب إعادة تشكيل نظامنا السياسي في الشكل الذي يجعل من نموذج الدولة المدنية حقيقة واقعة ومعاشة في مصر وإعادة تشكيل الرأي العام كذلك وفقاً لمنظومة ثقافية وحضارية تنمّي ثقافة التسامح وترسخ مبدأ التعايش المشترك بين مسلمي مصر وأقباطها.