بعد نحو عشرين سنة من آخر حرب في البلقان (1999) كان مبررها تحجيم سلوبودان ميلوشيفيتش وإطلاق الديموقراطية في صربيا تبدو الحالة مع «الحكام الجدد» في البلقان لا تسرّ الداخل ولا الخارج (الغرب) الذي تدخل لإسقاط «الحكام القدامى» كميلوشيفيتش وغيره الذين عززوا سلطتهم بشعارات القومية والحروب. صحيح أنه لم تعد هناك حروب وأصبحت لدينا ديموقراطية بمعايير غربية (انتخابات وبرلمانات الخ) ولكن برز جيل جديد من القادة الذين عرفوا كيف يستفيدون من هذه «الديموقراطية الجديدة» ودعم الغرب لترسيخ سلطتهم بالاعتماد على المافيات الجديدة والإمساك بمفاصل الدولة، الأمن ووسائل الإعلام، التي تتيح لهم البقاء مع التنقل على النمط الروسي أو التركي بين رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة ليستمر وجودهم في السلطة حتى عشرين سنة وأكثر. من هذا الجيل الجديد لحكام البلقان صالح بريشا في ألبانيا وميلو جوكانوفيتش في الجبل الأسود وهاشم ثاتشي في كوسوفو ونيقولا غرويفسكي في «جمهورية مقدونيا» ورئيس الوزراء ألكسندر فوتشيش الآن في صربيا الذي فاز أخيراً في الانتخابات الرئاسية وغيرهم. وفي هذه الحالة لم يعد مفيداً نشر فضائح الفساد والتنصّت على الاتصالات الهاتفية في ألبانيا وكوسوفو و «جمهورية مقدونيا» وغيرها التي تكشف عن «دولة عميقة» تحت السطح لا تتماثل مع الدولة الظاهرة فوق السطح طالما أن الانتخابات والبرلمانات والحكومات تحت السيطرة. من هنا، يمكن أن نفهم ما حدث أخيراً في «جمهورية مقدونيا» من اقتحام دموي للبرلمان لمنع المعارضة من تشكيل حكومة جديدة لأن رئيس الوزراء السابق نيقولا غرويفسكي لم تكفه عشر سنوات من الحكم المتواصل بشعارات القومية والسيطرة على مفاصل الدولة، ولا تناسبه حكومة جديدة تقدّمه للقضاء، ولا يمانع في إشعال حرب أهلية جديدة باسم «الحفاظ على وحدة البلاد». تضامن مع الحراك الديموقراطي جاء الفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي إلى بلغراد للمشاركة في «مهرجان بلغراد للأفلام الوثائقية» كضيف شرف، في وقت كانت المسيرات في مدن صربيا مستمرة منذ شهر احتجاجاً على انتخاب رئيس الوزراء ألكسندر فوتشيتش رئيساً لصربيا للسنوات 2017-2022 باعتباره رمزاً ل «الديكتاتورية» الجديدة في البلقان. بدأ فوتشيتش حياته السياسية في «الحزب الراديكالي الصربي» الذي كان على يمين ميلوشيفيتش، ويدعو علانية الى «صربيا الكبرى» وأصبح وزيراً للإعلام في عهد ميلوشيفيتش 1998-1999 ليقود الحملة الإعلامية المضادة ضد الغرب عشية وخلال حرب 1999، ثم انشق عن الحزب في 2008 مع توميسلاف نيكوليتش الذي شكّل «حزب التقدم الصربي» الذي تخلى عن تطرف «الحزب الأم» وانتخب رئيساً للجمهورية في 2012 ليبدأ بذلك صعود فوتشيش. في 2012 أصبح رئيساً للحزب الجديد ودخل الحكومة (2012-2014) وزيراً للدفاع ثم أصبح رئيساً للوزراء خلال 2014-2017 ليستبعد رئيسه السابق نيكوليتش من الترشيح للانتخابات الرئاسية ويفوز بالجولة الأولى في 2 نيسان (أبريل) المنصرم ليؤمن بذلك حكماً حتى 2022 قابلاً للتمديد حتى 2027. كانت المفاجأة مع ظهور هنري ليفي لإلقاء كلمة في المهرجان، حين اقتربت منه فتاة من «اتحاد الشبيبة الشيوعية في يوغسلافيا» لتقذفه بتورته، ثم حاول شاب الاعتداء عليه مع ترديد شعارات مناهضة لموقفه خلال حرب 1999، حين أيد هنري ليفي الحرب ضد صربيا الميلوشيفية. وبعد الهرج عاد هنري ليفي الى المنصة بعد دقائق مع بقايا التورته على رأسه ليدين «الفاشية» ويؤيد المسيرة الديموقراطية في صربيا ضد «الديكتاتورية» التي لم تتوقف عن الاحتجاج ضد الرئيس الجديد ألكسندر فوتشيتش، وليعتبر أن ما حدث له «نموذج لما يتعرض له الذين يكافحون في سبيل الديموقراطية وغيرها من دول البلقان» في وجه «الحكام الجدد». في الحديث اللاحق لهنري ليفي مع الجريدة البلغرادية «داناس» (عدد 11/5/2017)، التي كانت منصة المعارضة الديموقراطية ضد فوتشيتش خلال الأسابيع الأخيرة ، انتهز هذه الفرصة ليعبّر عن مجمل مواقفه حول حرب 1999 وحروب البلقان و«الديموقراطية الديكتاتورية» الجديدة في المنطقة و»الحكام الجدد» للبلقان الخ. في حديثه عن الوضع في صربيا، قال هنري ليفي إن صربيا تعيش الآن في نظام «ديموقراطية ديكتاتورية»، حيث «يتم استغلال نظام الانتخابات والحرية والديموقراطية لكبح أو قمع المجتمع المدني والنزعة إلى الحرية». فبعد كل الحراك الديموقراطي الذي ميز صربيا في السنوات الأخيرة لحكم ميلوشيفيتش وأدت إلى إرغامه على الانسحاب في خريف 2000 ينبعث الآن في صربيا «ميلوشيفيتش الثاني» الذي يبقى في السلطة دونما حاجة إلى حروب في المنطقة مثل «ميلوشيفيتش الأول». وباعتباره وزير إعلام «ميلوشيفيتش الأول» وجّه هنري ليفي النقد المباشر الى فوتشيتش الذي يحاول أن يغطي جرائم نظام ميلوشيفيتش في الدول المجاورة التي كانت ضحية لحروب ميلوشيفيتش (البوسنة وكوسوفو الخ). واعتبر هنري ليفي إن إدعاء فوتشيتش بأنه يريد انضمام صربيا إلى أوروبا «إنما هو ايديولوجية جديدة ل «حكام البلقان» الجدد الذي يراهم مجرد خليط من الفساد والشعبوية للاستمرار في الحكم بأي شكل، وهم بذلك يتمثلون برئيس الحكومة المجري فيكتور اوربان إلى رئيس الحكومة وبالرئيس رجب طيب أردوغان. ويقول هنري ليفي «إن هؤلاء يريدون أوروبا ولكنهم لا يريدون قيمها، ويدعون أنهم يحمون أوروبا من اللاجئين المساكين الهاربين من الحروب». وفي رده على سؤال عن تأييده الحرب ضد صربيا الميلوشيفية في 1999، قال هنري ليفي أنه كان مؤيداً للتحول الديموقراطي في صربيا وإبعاد ميلوشيفيتش الذي كان يشعل الحروب، وبالتالي كان يدعم تحرّر الصرب من حكم ميلوشيفيتش، و «لكن حين تنعدم الوسائل الأخرى لا بد من اتخاذ القرار بالحرب».