كان واضحاً أن الكهل الذي يغادر البوابة الآن هو صاحب الصوت الذي ظللتُ أسمعه طوال الليل. كنتُ متأكداً من ذلك رغم أنني رأيته من ظهره، يعلق في كتفه حقيبة أو جراباً لآلة موسيقية. بدا صوته كأنه آتٍ من حُلم. أنين مجهول المصدر يقض مضجعي. أكتم أذني بالوسادة، فتخفُت غلظته، لكنه يظل آتياً كأنما من أعماق سحيقة حيث كان بإمكاني رغم ذلك أن أؤكد أنه لرجل، وأن أحدد: ليس شاباً وليس مسناً، وأنه ينفذ إلى رأسي من أكثر من جهة، معذباً كأنه سيتوقف للتو ما إن تربت يد كتفه أو تلوح له بادرة صفح وغفران. ليلتي الأولى، والمكان الذي يبدو بالغ الوحشة كان في النهار مفعماً بالحياة والبهجة، فالنشيج البعيد تفصله أنَّات مفعمة بالأسى تارة، وبالانكسار والوجع المنزَّه تارة أخرى. حين أزحت الستارة، لم أر سوى عشب تضيئه أعمدة قصيرة بلمبات بيضاء كروية. سحبتُ باب الشرفة، فلاحَ السور الخارجي بعيداً كعقد تتلألأ حباتُه، والحديقة يغمرها الضوء. في ظل شجرة لمحتُه. كان قابعاً، يعطيني ظهره وينهنه بأنات أكثر إيلاماً ويشهق فيهتز منكباه مع موجات الأنين. الليلة الأولى وحين سألني صديقي عن رأيي في المكان، هززت رأسي بمزيد من الإعجاب، وقلت من هنا يمكن المرء أن يبدأ من جديد، وكان السور الخارجي أكثر ما أثارني. مطلياً بالجرانيت، غير مُصمَت، تقطعه بوابات دائرية من حديد مشغول، مضاءة من أعلى بلمبات كروية بيضاء، تتدلى عليه فروع الجهنمية بألوانها الثلاثة. هل يختلف المكان في النهار عنه في الليل؟ بات واضحاً في الليالي التالية أن النشيج لكهل وحيد، فلا أصوات مصاحبة أو متقاطعة أو متداخلة لزوجة أو طفل أو رفيق، ولا أحد يربت كتفه، أو يواسيه، أو يحول بينه وبين البكاء الذي يستمر بلا معوقات بعد منتصف الليل بربع ساعة، ولا ينتهي إلا مع فترة التسابيح أو بعدها بقليل، لم يحدث مرة واحدة أن أدرك لحظة النهاية، ودائماً ما أنتبه من غفوتي على غياب فادح للأنين، وراحة في جسدي من آلام غامضة، فأنهض على عجل متسمعاً أي حركة أو نفس أو وقع أقدام أو صوت انغلاق باب أو نافذة، لكنني لا أحصل على نتيجة. أدلف خارج البناية ماسحاً الممرات الجانبية، فتقفز القطة فجأة من فوهة الصندوق، تاركة غطاءه نصف الكروي يهتز، أهرع إلى الطريق الرئيسة المؤدية إلى البوابة، وما إن أهم ببصري حتى أرى المشهد نفسه الذي أراه على مدار الشهر. كهل يغادر البوابة الرئيسة، يحمل حقيبة أو جراباً لآلة موسيقية، فيما شخير الحارس يأتي من الغرفة الزجاجية بين البوابتين. لكنني حين دلفت من الباب الصغير، الذي يسلم إلى صحراء خاوية، توقف الحارس نفسه، وتقلّب وقد شعر بخطواتي، فكحَّ وسألني: «مين اللي داخل؟» أخبرته إنني كنت أتمشى، فأنِسَ إلى صوتي وعاد إلى النوم وانتظم تنفّسه. استمر البكاء في الليالي التالية حتى بعد أن اكتشفت أن القابع في الحديقة ليس إلا سلة مهملات سوداء ذات غطاء نصف كروي، مفتوحة نصف فتحة، تهتز لدى دخول قطة أو خروجها بأرجلها الأمامية. استمر البكاء خافتاً لكنه مضخَّم ومجسَّم، يخلّفُ رجعُه وحشةً مريرةً، كأنه لا يصدر عن حنجرة، وإنما عن آلة وترية ضخمة، فيبثُّ شجناً من نوع خاص حين يبدأ هادئاً وغليظاً، يعيد ويكرر كأنها لازم. عند المنطقة الجارحة، تهطل الدموع، ويرتفع النشيج، ويبلغ الإحساس بالفقد ذروته. في الضحى كان الأمر مختلفاً والمكان يبعث على البهجة وأنا أتجول بين البنايات والحدائق المشرقة بأشجارها الخضراء، ممعناً في البحث عن أي شيء غير متسق في الحدائق أو الدرَج المؤدي إليها والهابط منها، أو النوافير التي تطلق الماء إلى أعلى، أو تلك التي تسقط على الجدران الرخامية السوداء فتنسال في خرير رائع. لا أجد أي ملحوظة، ولا أي اقتراح يمكن توجيهه إلى الإدارة سوى عدم الراحة من هذا البكاء الليلي الذي يهجم بعد الثانية عشرة مساءً بربع ساعة ولا ينقطع إلا مع بزوغ النهار. بنهاية الشهر ترسَّخ لديَّ يقين أن الكهل اختار هذا المكان النائي حتى يبكي من دون أن يقطع استرساله أحد، وأنه ربما فقَد أشياء عظيمة. وأنا أجيل النظر في النهار بين وجوه ساكني المنتجع بسياراتهم الفارهة وبين العاملين فيه، لا أجد دليلاً على أنه بينهم. في المرة الأخيرة التي أوشكتُ أن أوقفه من ظهره قبل أن يصل إلى البوابة كان قد دلف إلى الصحراء. سألت الحارس عن بكاء استمر طوال الليل لرجل وحيد، فرفع حاجبيه باندهاش، وكنت أعرف أنه سينكر، لكنني كتبتُ في دفتر الملاحظات وفي صندوق الشكاوى وفي سجل الزيارات في نهاية المدة أن المكان رائع، لا ينغصه سوى قط يعبث بصندوق المخلفات، ونحيب كهل يبدأ بعد منتصف الليل بربع ساعة وحتى مطلع الفجر.