فاجأ الإعلامي والشاعر زاهي وهبي جمهور برنامجه «خليك بالبيت» (تلفزيون المستقبل) مستضيفاً في حلقته الأخيرة مطلع السنة الجديدة المطربة والباحثة الموسيقية اللبنانية غادة شبير، فأطلّت وأدّت بضع أغنيات قديمة وحديثة، بالعربية والسريانية، وتحدثت كعادتها برصانة ولطف وردّت على أسئلة مستضيفها وأسئلة جمهورها. بدت الحلقة ثرية في مضمونها، وفي المعلومات المهمة والأفكار التي ساقتها غادة كباحثة في حقل الموسيقى التراثية العربية والسريانية، ولا سيما في المقامات والموشحات والأدوار والأناشيد الدينية. وهي تكاد تكون فريدة في جمعها بين الفن والعلم الموسيقي والغنائي، بين الموهبة والتخصص الأكاديمي. ويحار مَن يحبّ صوتها وأداءها المتميز وأغنياتها المستعادة من المخزون التراثي، كيف أنها لم تكتفِ بهذه الهبة الكبيرة التي منحها إياها البارئ، فأرفقتها بالدراسة والبحث. وقد أصدرت الى جانب أسطواناتها البديعة كتباً عدة ذات طابع علمي وأكاديمي. تجمع غادة شبير في صوتها ذي الخامة المتميزة والفسحة الواسعة والملوّن بالعُرَب والعطفات، بين الإحساس العميق بالأداء واللحن والشعر وبين التقنية المرهفة والمراس المتين، لكنها عرفت كيف توازي بين هذين المعطيين فلا تتغلب التقنية على الإحساس ولا يتفلّت الإحساس من معايير الغناء والطرب الأصيلين. وانطلاقاً من هذا المزيج، نجحت غادة في الجمع بين الأغنية التراثية في أشكالها وأنواعها المتعددة، والمتراوحة بين الموشح والموال والدور وبين الإنشاد الديني ذي الجذور السريانية. هكذا التقت في تجربتها الشاملة، غناء وموسيقى، روحية التراث العربي وروحانية التراث السرياني، خصوصاً في تجلّيه الليتورجي المسيحي، مضافة إليهما الأنفاس الصوفية الطالعة من شعر الحلاج والقديس افرام السرياني وسواهما. أما ما يميز غادة شبير، فهو أنها صاحبة مشروع غنائي وموسيقي شامل. غادة ليست مطربة نادرة الصوت والأداء فقط، بل هي تسعى الى تأسيس تجربة ستكون فريدة ومميزة. وهي تعي تماماً ما تسعى إليه وتدرك أبعاد المشروع الذي تعمل بجهد على تحقيقه. كان في وسع غادة شبير أن تختار الأغنيات السهلة والشعبية وأن تحقق نجاحاً شعبياً كبيراً، فهي مؤهلة أكثر من كل المغنيات والمغنين الذين يملأون ساحة الفن العربي اليوم، لكنها مطربة أصيلة ومعاندة، تفتش عن الصعب والأصعب، وتحلم بإحياء تراث غنائي عظيم، عربي وسرياني، طربي ونشيدي، دنيوي وديني. ولم يكن عملها الأكاديمي والطربي على الموشحات على تراث سيد درويش وعلى الأدوار والمواويل إلا سعياً لإحياء نهضة جديدة تنطلق من التراث لتعاود إحياءه وعصرنته وتحديثه كي يتمكن من الوصول الى الجيل الجديد. عشية الاحتفال بعيد الميلاد أحيت غادة شبير أمسية إنشادية بالسريانية والعربية في كنيسة سان لويس في وسط بيروت، وتلت خلالها أناشيد سريانية مارونية قديمة، وحلّقت بصوتها وأدائها وبإحساسها العميق الطالع من الوجدان شبه الدرامي الذي تتميز به هذه الأناشيد. كانت غادة ساحرة برقتها وعذوبة صوتها الموشح بالإيمان والرهبة وأدهشت الجمهور الذي أصغى إليها بصمت مع أنه لم يكن يفهم الكثير من الشعر السرياني الذي أدّته. في لقائها مع زاهي وهبي، تحدثت غادة بعفوية ورقّة في آن، عن شؤون الغناء والموسيقى والتراث، وعن المفاهيم والمبادئ الموسيقية، وعن الشعر وضرورة استيعابه قبل أدائه، وعن «القصائد» وصعوبة وصولها الى الجمهور اليوم، هذا الجمهور الذي أفسدت ذائقته الموجات الرائجة التي لا علاقة لها بالموسيقى والغناء والشعر. ودعا زاهي وهبي المهرجانات اللبنانية الى استقبال هذا الفن الأصيل الذي تمثِّل غادة شبير أحد وجوهه المضيئة والى تقديمه الى الجمهور. فغادة شبير، مثلها مثل فاديا الحاج وسواها، تتمتع بشهرة كبيرة في العالم العربي وأوروبا وأميركا والصين، فيما يفتقدها الجمهور اللبناني، لا سيما جمهور المهرجانات. وما أحوج الجمهور اللبناني الى أن يتعرّف عن كثب الى مطربة أصيلة ومبدعة مثل غادة شبير، صاحبة الصوت المشبع بالأحاسيس والعُرَب والتلاوين، غادة شبير صاحبة المشروع الفني الذي لا بد من أن يتحقق ما دامت تضحّي بالشهرة والنجومية في سبيل تحقيقه.