ذاكرتنا يُضعفها بريق الشعارات، إذ ما إن يداعب الإيمان أحلامنا حتى تغيب رؤيتنا لما نريد، فلا نرى في الآخرين سوى الزوال، كيف لا ونحن أصحاب قضية نذرتنا لها السماء. هنا يتحول العدو الى امتحان، وأي هزيمةٍ يلحقها بنا، مردها ضعف أوجده الشيطان في نفوسنا. وبموت العقل المشكك، تدخل القضية في كنف المقدس، وكل دمٍ يراق عليها يصبح طاهراً في عبوره نحو شهادةٍ هي أول الطريق الى النصر!. فمن يجرؤ على فضح المتاجرين بأرواحنا، ومتى ندرك أن الآخر يعتقد أنه على حق وأنه صاحب قضية وعدته بها السماء كما وعدتنا!. في غزة، تبقى «حماس» في صمودها أمام حصار تناغمت معه، شامخةً بنظر جمهورها والعالم، وقاموس مفرداتها الجهادية، يزداد فتحاً يوماً بعد يوم. في الوقت نفسه لم تستفتِ الغزاويين على سلوكها وممارساتها في إدارة القطاع والذي بات إقطاعية حمساوية. تكتفي قياداته بأخذ الصور التذكارية مع قوافل الإغاثة، من دون أن تنسى تمرير بعض المعارك تعيد من خلالها إنتاج وتجديد بطولاتها المقدسة، ولكي تكرس انفصالها، تلجأ الى كيل الاتهامات والتحريض على سلطة فلسطينية، يزيد من ضعفها غياب موقف عربي موحد وضاغط من جهة ويمين إسرائيلي شره، يتحرك على خلفية تراخي الإدارة الأميركية تجاهه، وامام مشهد الانقسام الفلسطيني ومن وراءه العربي والإسلامي، تراهن الحكومة اليمينية في اسرائيل على حروب قادمة ذات مكون ديني يكرسها كدولة يهودية أول ضحاياها عرب ال 48. في الجنوب اللبناني، مقاومة إسلامية لا منطقة وسطى لديها، فإما أن تكون مع المقاومة في كل مواقفها، وإما انك في الجانب الآخر، حيث العدو ومن يقف خلفه من المجتمع الدولي، من هنا على لبنان واللبنانيين أن يقرروا الى أي ضفةٍ سينتمون وكأن لا خياراً آخر خارج هذه الثنائية المانوية، الجنرال أراح اللبنانيين من مغبة تفكير قد يقودهم الى التكفير، فاختار - وأي اختيار منبعه خوذ العسكر - أن على لبنان أن يتحول كله الى مقاومة، «هكذا تكلم الجنرال»! فماذا سيقول سيد المقاومة بعد هذا الكلام!. مسار السلام باطل وبحكم المنتهي لديه باعتبار فلسطين «وقفاً إسلامياً»، ولا شيء تجيزه المراجع الشرعية سوى «الهدنة». ولم تكد شعوب المنطقة ترتاح من الأفكار والأحزاب « النضالية «، في صراعها مع اسرائيل ومحاربة الرجعية والامبريالية، والتي أفضت إلى تكريس دولة اسرائيل أمراً واقعاً، حتى أطلت الأفكار والحركات الجهادية السلفية، لتعد العدة في جهادها القادم لاقتلاع وسبي اليهود ودحر من يقف خلفهم «بعون الله»، وإذا كانت مقتضيات المرحلة تستوجب حضور صليبيين جدد، فما المانع من وجود عثمانيين جدد، يؤازرون لاسترجاع دولة «فلسطين المسلمة» من اليهود وهزم قوى الاستكبار والشر العالمي!. ومنذ حصار غزة وتصريحات الاستهجان والاستنكار تتصاعد من الجانب التركي، من مؤتمر دافوس، حيث أطل علينا رجب طيب أردوغان كزعيم جديد للقضية الفلسطينية وصولاً الى أسطول الحرية ومأساة السفينة «مرمرة». بات أي نقاش حول الأسباب والدوافع التي أدت الى هذه المأساة، بخلاف التوجه والرواية السائدة في الإعلام التركي ومن خلفه العربي والإسلامي جريمة، ان لم نقل خيانة لدماء شهداء السفينة. في حضور الدم الاستشهادي يغيب المنطق وينزوي صوت العقل. ان رؤية الأمور في سياقاتها السياسية المتلاحقة يضع أكثر من علامة استفهام، ويفتح الباب على الأسئلة والمقاربات التي نجمت عن استثمار هذه الحادثة في منطقة الشرق الأوسط، إذ تحيلنا الى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الدامية وكيف استطاعت الإدارة الأميركية توظيف المأساة تلك في خدمة مصالحها السياسية. حادثة «مرمرة» قدمت للحكومة التركية جواز عبور ممهوراً بالدم، منحها الشرعية السياسية والدينية، لا بل والقانونية، للدخول على خط القضية الفلسطينية والذي بات شاغراً إلا من الإيراني، دور دخل الفن والإعلام التركي فيه على خط السجال المفتعل مع اسرائيل، وسنشهد قريباً أدبيات وخطابات وتنظير قوامه لزوم ما تقتضيه المرحلة المقبلة في شحن جماهير المنطقة والزج بهم في صراعات، تخدم مصالح هذه الدول المادية والسياسية. المؤسف أن معظم الذين تناولوا قضية أسطول الحرية، ردوها الى سياسة الغطرسة والاستعلاء الإسرائيلية، معتبرين أن هذه الأخيرة دولة يسهل استفزازها ولا تعرف أين تكمن مصالحها، متمنين في قرارة أنفسهم، وإن وهماً، عداءً حقيقياً بين الدولتين. ضمن التوجه التركي الجديد للمنطقة ومتابعةً لسيناريو «الصمود» في وجه السياسات الإسرائيلية، يطل علينا أردوغان في زيارته الى لبنان، بلقاء شعبي للأقلية التركية، كما فعل نظيره الإيراني في الجنوب، ففي لحظات التداعي والانهيار تمّحي الغرابة ومثيرات الدهشة والذهول. اللافت في موضوع الزيارة قوله تذكيراً للبنانيين ما مفاده «أن السراي الحكومي منجز عثماني». وبدل أن يقابل بالاحتجاج ومطالبته بالاعتذار كما يفعل الأرمن اليوم، لم نرَ إلا الابتسامات وعبارات الترحيب متناسين قروناً طويلة من الاحتلال والتنكيل بشعوب هذه المنطقة أعاد الحليف الجديد تذكيرنا بها. مشهدٌ يقابله بالشكل والمضمون مشهد الرئيس أحمدي نجاد في جنوب لبنان وهو يهدد ويتوعد الكيان الصهيوني، هكذا يطل علينا نجم نجاد وأردوغان، وكأنه كتب على لبنان واللبنانيين أن يقاتلوا عن «الأمة « العربية والإسلامية، إلى أن تسوي كل دولة حساباتها، ولتحضر فلسطين ذريعةً للنيل من كل ما عداها. * كاتب سوري