بدأت فنون العالم حواراتها المفتوحة واحتفالاتها الأضخم والأكثر ثراء أمس، من البندقية مدينة الأحلام والرومانسية والعمارة والفن، حيث افتتح أقدم بيينالي في العالم (نظم للمرة الأولى العام 1895) ولا يزال الأهم إذ يزوره تقريباً خمسمئة ألف شخص، ما عدا الصحافيين الذي بلغ عددهم هذه السنة حوالى 7000 صحافي من كل بقاع الأرض. «يحيا الفن يحيا» (VIVA ARTE VIVA) هو عنوان الدورة 57 (توقف البيينالي أكثر من مرة بسبب الحروب ومشكلات أخرى منذ تأسيسه) لأهم التظاهرات الفنية وأكثرها تنوعاً، التي يترأسها هذا العام باولو باراتا ويشارك فيها 120 فناناً من 51 بلداً، بينهم 103 يشاركون للمرة الأولى، يتوزّعون بين الأجنحة الوطنية (لكل بلد يختار المشاركة جناح خاص له الحرية في اختيار فنانه والثيمة التي يعمل عليها) وبين المعرض الدولي الأساسي الذي كانت على رأسه هذه السنة القيّمة الفرنسية كريستين مارسيل، وبين المعارض الجانبية. الحوار بين الفنانين وبين الفنانين والجمهور في الحدائق والساحات وعلى الأرصفة وفي المدارس والكنائس والمعاهد والأكاديميات وفي الثكنات العسكرية وفي أماكن المدفعيات الحربية التي تحوّلت معارض ومساحة للسلام والفن والتلاقي، هو أهم ما يركز عليه البيينالي هذا العام، على اعتبار أن الحوار أساس الوجود وطريقة للعيش، كما يقول رئيس البيينالي والاسم الشهير في عالم الفن باولو باراتا. وهذه الحوارات تراها وتسمعها في كل زاوية وكل زاروب من زواريب مدينة البندقية بلهجات مختلفة ولغات متعددة ووجوه متعطشة للمعرفة ومندهشة بما تراه من أعمال توسّع الأفق والمدى وتعطي جرعات عارمة من الأمل بغد أفضل. هذه اللغات والأصوات التي تسمعها وأنت تتنقل بين قنوات البندقية ومتاحفها وأماكن العرض في «أرسينال» وجيارديني»، وتلك الوجوه من أعراق وجنسيات وألوان مختلفة، تتمازج لتشكّل تجهيزاً فنياً عفوياً في الهواء الطلق، في مشهد لا مثيل له. لا يمكن الكتابة فعلاً عن كل ما تراه في هذه الدورة من بيينالي البندقية التي «لم يسبق لها مثيل بهذا الحجم والالتزام» بحسب باراتا، في مقال أو 3 مقالات. لكن يمكننا القول إن البيينالي يواجه كل هذا الاضطراب العصي على التصنيف الذي نعيشه اليوم في حدّة قساوته وعنفه وحروبه والصراعات الدائرة في العالم، بنزعة إنسانية فائضة. فالبيينالي ينقل من خلال الأعمال المقدمة فيه التي تتناول بجديّة وجمال العنف والفوضى والصراعات والقسوة كما الحب والحياة التجريبية، «الطاقة الإيجابية والمحتملة ويركز على فئة الفنانين الشباب لدعمهم وتحفيزهم، كما يعيد اكتشاف أولئك الذين توفوا أو أولئك الذين لا يزالون غير معروفين إلى حد كبير على رغم أهمية عملهم»، بحسب كريستين مارسيل. ومن أهم الأجنحة التي تتناول العنف وتكراره ودمويته ومن ثم الانبعاث وكيف يتحوّل الموت إلى حياة، من أيام حمورابي حتى الآن، الجناح اللبناني الذي خصّص للفنان والموسيقي زاد ملتقى وأتى تحت عنوان «عجز». كما هناك الجناح الأرمني، وخصوصاً القسم المخصص للفنان الأرمني اللبناني البلجيكي جان بوغوسيان بعنوان «الشعلة التي لا تخمد»، حيث تدمّر الثقافة ويعاد بنائها من جديد بروح المهاجرين والمنكوبين الذين ينتصرون على أوجاعهم ويحلمون بمستقبل أفضل. الفن في جرعاته الكبيرة في البندقية أثبت أنه الأساس النهائي للتفكير، والتعبير الفردي، والحرية، والأسئلة الأساسية. هو المعقل الأخير، وحديقة لزراعة ما وراء الاتجاهات والاتجاهات الشخصية، فهو يمثل بديلاً لا لبس فيه للفردية واللامبالاة. فقد عكس البيينالي غضباً عاطفياً للفن في وجه العالم اليوم، وصرخة لدول الفنانين المشاركين. فقد خلق البيينالي الذي يستمر حتى 26 تشرين الثاني (نوفمبر) جدلية حول المجتمع المعاصر وقيمه، خارج الفنان نفسه وخارج الحدود الجغرافية. «الأسد الفضي» للمصري حسن خان ... أفضل فنان شاب واعد أعلنت لجنة تحكيم جوائز بيينالي البندقية لعام 2017 مساء أمس، أسماء الفائزين خلال احتفال ضخم حيث سلّم الفنانون أسودهم. وقد ذهب «الأسد الذهبي» لأفضل مشاركة وطنية للجناح الألماني والفنانة آن إمهوف المشاركة فيه والقيّمة على الجناح سوزان بيفر. وذلك لتثبيت قوي ومثير للقلق الذي يطرح أسئلة عاجلة حول عصرنا. كما يتميز عمل إيمهوف بإجابة أصلية عن بنية الجناح، وذلك من خلال قرارات دقيقة حول الأشياء والصور والهيئات والأصوات. أما الجناح البرازيلي، والفنانة سينثيا مارسيل المشاركة فيه والقيّم يوكن فولز، فقد حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم، للتركيب الذي تنتجه مساحة غامضة في الجناح وغير متوازنة، إذ لا يمكننا أن نشعر بالأمان فيه. فهيكل التثبيت والفيديو الذي أنتجته وكتبته سينثيا مارسيل في شراكة مع المخرج تياغو ماتا ماشادو يثيران مخاوف المجتمع البرازيلي المعاصر. أما «الأسد الذهبي» لأفضل فنان في الدورة 57 التي حملت عنوان «فيفا أرت فيفا» فحصلت عليها الفنانة الألمانية فرانز إيرهارد والثر لعملها الذي يجمع بين الأشكال والألوان والأقمشة والنحت والأداء ويستمر في تنشيط المشاهد بطرق جذابة، لطبيعة جذرية ومعقدة من أعماله التي لها تأثير في عصرنا وتقترح وسيلة للعيش في العبور. وكانت للعرب حصة من هذه الجوائز، إذ حصد الفنان المصري المولود في لندن حسن خان (هو ابن المخرج السينمائي محمد خان) «الأسد الفضي» للفنان الشاب الواعد، لإبداعه مشروعاً سمعياً بحثياً موسيقياً بعنوان «مقطوعة لحديقة عامة» يمزج فيه بين السياسة والشعر بطريقة متقنة رومانسية وخيالية لا تخلو من موقفه السياسي الغاضب. فهو يقيم مع المتفرّج أو زائر المعرض وجود صلة بين اللفظ الصوتي أو التعبير الصوتي وبين صوت الأشياء التي يعمل حسن خان على تركيبها من عناصر مختلفة (بيانو، سلاسل حديدية، نحاس مزامير، أصوات مركبة على الكومبيوتر...)، وبين الأفق. وتتداخل هذه الأصوات والألحان والأنظمة الموسيقية التي يبتكرها خان بنفسه، وتجتمع معاً وتتنافس وتتعارك وتتجانس، كما الناس بمختلف أفكارهم وأطيافهم في الحياة وعلى أرض واحدة. وذلك عبر مكبرات صوت وأقنية منتشرة في حديقة هادئة في البيينالي، يشعر الزائر بأنها دليله أو الخريطة التي ترشده للتنقل في الحديقة. وكانت هناك تنويهات بأعمال فنانين آخرين مثل تشارلز أطلس، لمقاطع فيديو تشكل روعة بصرية كبيرة وتحريراً متطوراً لصور من جمال الطبيعة التي تنضم في عمل واحد الى نص يعالج مسائل التقشف والإحباط، والجنس والطبقة. إضافة الى الفنان بيترت هاليلاج، للتدخلات الخيالية التي تخلق علاقات بين تاريخ كوسوفو وذكريات الطفولة.