في الأدب الإنكليزي، هناك قصيدة فائقة الشهرة للشاعر صاموئيل تايلور كولردج، عنوانها «أنشودة البحّار العتيق». يصف أحد مقاطعها سفينة انقطع عن أشرعتها دفع الهواء، فلم تعد تتحرك. وبقيت أياماً تطفو بسكون على سطح محيط شاسع، فمات بحّارتها عطشاً وهم محاطون بالماء، سوى من يروي حكايتهم لاحقاً. وفي أبيات شهيرة أيضاً، يصف البحّار العتيق تلك الصورة فيقول: «ماء... ماء... ماء/ ماء في كل مكان، لكن ليس من قطرة واحدة تصلح للشرب». يشبه وضع سكان الأرض مع الذكاء الاصطناعي («آرتيفيشال إنتلجينس» Artificial Intelligence، واختصاراً «إيه آي» AI) ما تصفه الكلمات السابقة، بمعنى أنّهم غارقون فيه طوال الوقت، كحال تلك السفينة مع ماء المحيط. ويبقى الرجاء معلّقاً على أن يسعف الذكاء البشري الناس في تفهم نظيره الاصطناعي، ويتفاعلوا بحكمة معه، كي لا ينتهوا إلى مصير الهلاك الذي حاق بطاقم سفينة البحّار العتيق! يرافق ذكاء ال «إيه آي» البشر على مدار الساعة. إنّه منبث في أجهزة الكومبيوتر والخليوي واللوح الذكي، وآلات الصرّاف الآلي، ومحطات الغسل الآلي للسيّارات، والآلات الحاسبة، وساعة «غير»، ونظارة «غوغل»، وسوار «فت بت»، وأجهزة المختبر، وآلة قراءة ال «كود بار» على السلع والهويات وجوازات السفر، ومجسّات الركن الذاتي في السيّارات الحديثة، وطائرات ال «درون»، وآلات تحضير القهوة أوتوماتيكياً و... القائمة طويلة. وعلى رغم ذلك، لا يزال الرأي العام عاجزاً عن فهم تلك التكنولوجيا جيّداً، بل يحجم شطر كبير من الجمهور حتى عن محاولة فهم ال «إيه آي» الذي يطوّقهم تماماً. ووسط ما يشبه فراغاً فكريّاً، برزت مجموعة متنوّعة من الأفكار السلبيّة عن مسار ثورة المعلوماتيّة والاتّصالات المتطوّرة (وهي متمحورة كليّاً حول الذكاء الاصطناعي وإنجازاته وتطوّره)، وترسم صورة كوارثيّة عن مصير البشر في حال استمرار اعتمادهم على «إيه آي». ووفق ما يظهر لاحقاً، ثمة مبالغات كبيرة في ذلك النوع من المزاعم التي تتضمّن مغالطات كثيرة تدلّ على عدم تمكّنها من سبر أعماق ظاهرة الذكاء الاصطناعي. وتالياً، ربما بات الوقت مناسباً لدحض 5 من تلك المعتقدات الخاطئة والمدمّرة، وهي نموذج عن أفكار أخرى مماثلة. يقضي على معظم الوظائف يؤكّد كثيرون حاضراً أنّ ال «إيه آي» سيحفّز طفرة إنتاجيّة كبرى تقضي على الوظائف بوتيرة سريعة جداً. ومع تفوّق وتيرة تقدّم الاقتصاد على فرص الوظائف، تنشأ طبقة دنيا من العاطلين من العمل، بل تهيمن عليها نخبة من «مالكي آلات الذكاء الاصطناعي». تنطوي وجهة النظر المدمّرة هذه على خطأين كبيرين، أوّلهما أنّها تبالغ في تقدير قدرة ال «إيه آي» على استبدال البشر الذين يتميّز ذكاؤهم بأنه مركّب ومتعدّد، فيما ما زال نظيره الاصطناعي يعمل بطرق أحاديّة غالباً. وتالياً، من الصعوبة بمكان أن تزول وظائف لا حصر لها عن الوجود بسبب التكنولوجيا الذكيّة. يجعلنا أغبياء حتّى إن تخطّينا الخوف غير المبرّر من الآلات الذكيّة باعتبار أنّها ستسلب منّا وظائفنا، يؤكّد بعض الأشخاص اليائسين أنّ ال «إيه آي» سيحوّلنا إلى بشر «آليين» بمعنى الاعتماد على الآلات بشكل مبالغ به. ويرون أنّ الوضع سيؤول إلى حال يفقد فيها البشر تدريجيّاً مهاراتهم الأساسيّة، ما يعني أنهم لا يعودون قادرين على السيطرة على مجريات حياتهم في حال حصول توقّف مفاجئ لآلات الذكيّة. ربما يصح القول أنّ الطلب سيقلّ على عدد من المهارات متى أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على تولّي مهام روتينيّة اعتاد البشر على إنجازها. ويشبه ذلك القول بأنّ السيارات جعلت من التمرّس في معرفة امتطاء الخيل غير ضرورية لمعظم البشر، بعد أن كانت أمراً أساسيّاً في حياتهم. في المقابل، يفتح التفاعل المستمر بين البشر وظاهرة ال «إيه آي» مجالات واسعة أمام مهارات بشريّة مبتكرة، خصوصاً طرق تعليم الآلات وتدريبها، واستنباط تقنيات للتحكّم في تقنيات شائعة وغيرها. يقضي على خصوصيّة الإنسان إذا وصلت الآلات الذكيّة إلى درجة شبه بشريّة في التعامل مع الأعداد هائلة من البيانات، فلا شكّ في أنّها ستقضي على خصوصيّة البشر. وفي ما تمتلك نظم ال «إيه آي» القدرة على جمع كميّات ضخمة من المعلومات وتحليلها، لا يزيد تهديدها لخصوصية الناس عما يحصل لهم عندما يعيشون في ظل أنظمة قمعيّة لا تستخدم الذكاء الاصطناعي لكنها تعمل على جمع كميّات ضخمة من المعلومات عنهم، وتتمرّس في تحليلها. بقول آخر، ترتبط المسألة أساساً بالسياسة، وليس التقنيّات. يسمح بالتحيّز والإساءة من المعلوم أنّ أنظمة التعلّم الآلي أكثر تعقيداً من برامج الكومبيوتر التقليديّة. وحاضراً، اتّضح بصورة نسبيّة كيف كانت الأنظمة المحترفة القديمة، التي استندت إلى قواعد محدّدة، تتخذ قراراتها وفق مشيئتها حتى لو خالفت نتائج تجربتها. وتعمل نظم تعليم الآلات بصورة مغايرة تماماً، بمعنى أنها أنظمة التعلّم الآلي الراهنة، التي تتكيّف وتتحسّن باستمرار بالاستناد إلى تجربتها. يزعم بعض الناقدين أن هذا المستوى من التعقيد سيولّد «منحى محكوماً برياضيّات الكومبيوتر»، ما يعني تحكّمها بالحكومات والمؤسّسات وصولاً إلى حدّ الإخلال بعملها. ومثلاً، تصف ذلك الأمر البروفسورة الأميركيّة كاثي أونيل، مؤلفة كتاب صدر في 2016 بعنوان «أسلحة الدمار الناتج من الرياضيات: كيف تعزّز حزم البيانات الضخمة عدم المساواة وتهدد الديموقراطية» Weapons of Math Destruction: How Big Data Increases Inequality & Threatens Democracy. وترى أونيل أن تطوّر الرياضيّات المتعلّقة بتعليم الآلات طريقة التعلّم من تجاربها، ستكون على الأرجح عنصريّة وميّالة للتفرقة الجنسية. ويشير ناقدون آخرون إلى أن المؤسّسات ستختبئ خلف تلك المعادلات، وتستعملها لتبرير الاستغلال والتفرقة وغيرها. يقضي على الجنس البشري يذهب بعض المختصّين إلى القول أنّ آلات ال «إيه آي» ستتمتع بذكاء خارق وتقرّر أنها أفضل حالاً من دون بشر. وأعرب علماء كالبريطاني ستيفن هوكينغ وقادة كبار بينهم بيل غيتس (المؤسّس الأسطوري لمايكروسوفت) إيلون ماسك (مؤسّس «سبايس إكس» و «تسلا موتورز») عن مخاوفهم في شأن «الروبوتات القاتلة» Killer Robots. والحال أن الرأي الذي يفيد بأن الآلات ستقتلنا ذات يوم يبالغ في تحديد وتيرة التقدّم التكنولوجي، خصوصاً أنّ قدرة رقاقات الحوسبة السيليكونيّة على المعالجة تتباطأ (على عكس ما ذهب إليه «قانون مور» Moor's Law الشهير)، ويتباطأ تطوّر الذكاء الاصطناعي في التعلّم المعمّق. أبعد من ذلك، تنتمي عقول البشر والآلات إلى نظامين مختلفين كلياً، وحتى إن حصل تقدّم كبير جدّاً في مجال الحوسبة، من المستبعد جدّاً أن يتمّ إنتاج آلة تتمتع بقدرات البشر في الفكر والخيال والقدرة على التكيّف والاستنباط وابتكار ما ليس موجوداً فعليّاً.