قدّمت الحكومة العراقية إلى البرلمان مشروع الموازنة العامة لعام 2011، ولكن في مجتمع تفاقمت فيه أخطار البطالة مع التزايد السريع لعدد السكان، ومع عجز النمو الاقتصادي عن تحقيق التنوع القطاعي المرجو، وفي زمن لا تتزايد فيه الموارد المائية إن لم تتناقص تناقصاً واضحاً، يُلاحظ ان التخصيصات المالية المرصودة للقطاع الزراعي لم تتجاوز 0.8 في المئة من مجموع الإنفاق الجاري ونحو 0.5 في المئة لا غير من مجموع ما اقتُرح رصده للنفقات التشغيلية والاستثمارية. ويبلغ المبلغ البائس المقترح لهذا القطاع الحيوي 422 مليون دولار فقط، وهو هزيل، مقارنة بإنفاق جار كلي مقداره 54.72 بليون دولار وإنفاق استثماري عام مقداره 28.96 بليون دولار. تعكس هذه الأرقام قلة الاهتمام بهذا القطاع الحيوي ذي اليد العاملة المكثفة خلال سنة يشتد فيها الضغط لاستحداث وظائف حكومية يُقال إنها ستبلغ نحو 172 ألف وظيفة، منها نحو 112 ألفاً في الأجهزة المتضخمة لوزارة الداخلية. وتثير قلة التخصيصات للقطاع الزراعي قلق الاقتصاديين، وكذلك لدى المهتمين بمكافحة البطالة والفقر. لن تيسر قلة الرصد المقترح نمواً ملحوظاً للزراعة ولا انتعاشاً كبيراً مطلوباً لمستويات المعيشة المتدنية في الريف الذي كان ولا يزال الموطن الأساس للفقر. وسيعزز التوسع المبالغ به بالتوظيف الحكومي، خصوصاً في الأجهزة الأمنية، نزوع اليد العاملة الشابة إلى ترك الريف المهمل بحثاً عن أجور أجزى، خصوصاً تلك التي تؤمّنها أعمال حكومية غير إنتاجية برواتبها وامتيازاتها. وسيؤدي استمرار تدفق الشباب من الريف إلى خسرانه للعاملين الأكثر نشاطاً وإنتاجية، الأمر الذي سيساهم في تدهور غلة الإنتاج الزراعي وبذلك، سيتفاقم الاعتماد على المستوردات الغذائية من دون مبرر اقتصادي. ولا يزال فلاحون كثيرون يعيشون أوضاعاً بائسة إذ بقي ريف الجنوب متخلفاً بعدما تدهورت الزراعة وبساتين النخيل بمحافظة البصرة باقتلاع ملايين نخلاتها الباسقة إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وتفاقمت هشاشة التربة نتيجة العمليات العسكرية فتفاقمت مشاكل التصحر. وأدى التملح الكبير لمياه شط العرب إلى تأخر الانتعاش المنشود. أما أهوار محافظات ميسان والبصرة وذي قار، فجففت حكومة صدام قرابة 90 في المئة منها ما أهلك أحد أهم مكونات البيئة العراقية بثرواتها الحيوانية والسمكية. وجاءت المشاريع المدعومة دولياً لإعادة إحياء الأهوار لتخفيف الأضرار البيئية والاقتصادية الفادحة للتجفيف. أما في الفرات الأوسط، فأدى تدهور منسوب النهر ونوعية مياهه إلى أزمة إنتاج جدية هناك وفي ذي قار كذلك. وفي إقليم كردستان، قادت حروب النظام السابق إلى دمار بعض من أفضل الأراضي الزراعية وتهجير المزارعين منها إلى أطراف المدن. وبعد عام 2003 استقرت ألأوضاع الأمنية هناك، إلا أن سياسة التوسع السريع في التشغيل الحكومي لم تحفز المزارعين السابقين للعودة إلى أراضيهم حيثما كان ذلك مأموناً ومتيسراً. وبسبب أخطار انفجار الألغام في بعض الأراضي الزراعية تأخر نهوض الزراعة الكردستانية. وتهدد المشكلة الزراعة ذاتها في المناطق الحدودية لمحافظات محاذية لإيران جنوب العراق. واستمر القطاع الزراعي راكداً بإقليم كردستان طالما سمحت السياسات التجارية بالاستيراد غير المنظم من الأغذية، إلا أن بعض المؤشرات تشير في الآونة الأخيرة إلى عودة بعض أصحاب الأراضي للعناية بأراضيهم المهملة طويلاً. أما في نينوى، وهي سلة حبوب العراق، فأدى تفاقم الجفاف وحركة الآليات إلى أزمة تصحر ملحوظة، يبدو ان كثيراً من محافظات العراق لم تسلم من آثارها مع بطء إقرار برامج طموحة للتشجير ولإقامة جدران واقية. ومع شدة التصحر وتفاقم أزماته البيئية، سيكون ضرورياً للسياسة الزراعية إقرار برامج طموحة للحد من زحف الصحاري يمكن لها أيضاً توليد كثير من الأعمال للشباب العاطل من العمل. بالإجمال، لا يبدو أن ما اقتُرح رصده سيكون كافياً لإعادة إحياء هذا القطاع الحيوي، بل إن ضآلة النسبة المخصصة تشير إلى إيلاء أهمية تكاد لا تذكر لدعم الإنتاج الزراعي وصيانتها. ومما قد يؤشر في الاتجاه ذاته هو استمرار انفلات سياسة الاستيراد إذ يقدر تقرير أخير لصندوق النقد الدولي قيمة الاستيراد ب 50.2 بليون دولار عام 2010، الأمر الذي لا يدل على توجه جاد لحماية المنتوج الوطني. هناك كثير مما سيتوجب فعله لهذا القطاع كي يمتص بطالة الشباب ويزيد الإنتاج. وضروري هنا التوسع ببرامج التنمية الريفية المتكاملة سواء على مستوى تخصيصات المحافظات أو من قبل وزارة الزراعة. ومن أهم الإجراءات المطلوبة دعم القدرات الإقراضية والفنية للصيرفة الزراعية بغية تخفيض اعتماد الفلاحين على القروض الربوية من التجار من جهة، ولتنشيط الاستثمار الزراعي وتيسير التسويق المجزي مالياً من جهة أخرى. ولا شك في أن تدهور نوعية المياه وازدياد ملوحتها مبرران لزيادة ملحوظة بتخصيصات البحوث الزراعية والإرشاد في العديد من المحافظات. ويدعو ضعف مستويات الدخل الريفي إلى الاهتمام بزيادة ما سيرصد لمشاريع الإسكان الريفي وبنشر أفضل لخدمات التعليم والصحة. وتدعو البطالة الواسعة إلى إيلاء المزيد من الاهتمام ببرامج التشجير من جهة والحفاظ على التربة من جهة أخرى. وستكون لبرامج تطهير شبكات تصريف المياه وصيانتها وتوسيعها وغسل التربة المتملحة وتوسيع استخدام المزارعين شبكات الري بالتنقيط، أهمية بالغة في ظل انكماش الموارد المائية. ولا ريب في أن القطاع الزراعي في حاجة إلى موارد إضافية لتنمية موارده الحيوانية والبرامج التي يمكن اقتراحها هنا لا تقل أهمية من برامج الفرع النباتي وتطوير الثروة المائية وتقنين استخدامها. كل ما تقدم في حاجة لموارد يجب أن تزيد على التخصيصات الباهتة المخيبة للآمال بما رُصد للزراعة ولأهالي الريف المهمشين. الأمل الآن بمناقشات مجلس النواب كي يعاد الاهتمام بالزراعة وبالمواطن الريفي المهمش لمصلحة التوظيف في الأجهزة البيروقراطية سريعة التوسع، والتي تستحوذ على الحصة الأكبر من الريع النفطي للبلاد. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية