تتكاثر في السنوات الأخيرة ظاهرة دخول سينمائيين شبان للمرة الأولى ميادين تحقيق أفلام سينمائية في المغرب أو في السينمات العربية الأخرى، ما يجعل منهم أصحاب «فيلم أول» يحدث في بعض الأحيان أن يجرّ وراءه أفلاماً تالية للمخرج نفسه، بينما يكون في مرات أخرى فيلمه الوحيد لسنوات طويلة! وفي حقيقة الأمر، يأخذ ما يعتبر فيلماً أول، والمقصود هنا هو الفيلم الطويل، تحديداً معيناً في ظرف خاص يتعلق بالسينما المغربية وملابسات الإنتاج والإخراج داخلها. فتجربة إخراج فيلم أول لها صفة المقاولة بالمعنيين المعروفين للكلمة. مقاولة بمعناها الاقتصادي الصرف، ما دام الفيلم منتوجاً يساهم في صنعه وتوافره فريق عمل متخصص ومنذور لسوق استهلاك تحكمه قيم الربح والخسارة. وهو مقاولة بالمعنى الفكري، بما أن الفيلم يدخل في خانة الجنس التعبيري الذي يروم المساهمة في إغناء العلاقة مع العالم والوجود والإنسان عاطفياً وفكرياً. الفيلم هنا إبداع خالص. تحديد قيمة ما في نظرنا، الأمر الثاني هو الذي يحدد قيمة مآل الفيلم الأول وما يشكله. وهنا نجرؤ على القول إنه علامة فاصلة كبداية ونهاية في الوقت ذاته. بداية مشوار ونهاية تأسيس. الفيلم الأول يدشن مرحلة وينهي أخرى، كحد فاصل بين حلم وإعداد. نهاية مرحلة التخيّل الذي يود أن يكون تجسيداً للحلم، وبداية مشوار فني سينمائي غير مضمون بتاتاً. ومن هنا تأتي أهميته. فالفن السابع يختلف عن أي عملية إبداعية خاصة بجنس إبداعي مغاير، الأدب والتشكيل مثلاً. لأنه كما قلنا مقاولة تستند الى فكرة يجب تحقيقها عيانياً وتمريرها للآخر، وهو ما لا يتأتى بكل يسر وسهولة. فللوصول إلى ذلك، يجب التوفر على «حرفة» مخرج محكوم عليه أن يواجه العالم الواسع الذي اسمه الجمهور العريض. لكن قبل ذلك عليه أن يواجه واقعاً سينمائياً سابقاً فيه تراكم فيلمي، وتتحكم فيه ضوابط مهنية وثقافية معينة، وتسود في أجوائه سلوكيات معلنة وخفية مخصوصة بالجغرافيا والتاريخ الفني والثقافي وطبيعة العلاقات اللصيقة بممارسة السينما محلياً. في المغرب، ظننا طويلاً أن الأمر محسوم جهة السينما الثقافية المعبرة التي فكر فيها الرواد وأشاعوا عناصرها المكونة لها لعقود. وهي التي لا تزال تبرز عند الحديث عن هذه السينما وإن لم تعد هي السائدة عملياً في واقع الحال الإنتاجي والتسويقي. صرنا نرى سينما أخرى لا تريح، مما يستوجب مقاومة ضرورية، فالسينما جنس إبداعي تعبيري لا مجال تسلية أو تزجية وقت مجاني. لها المكانة نفسها التي للأدب الرفيع. والملاحظ أن النظرة اللاواعية هي التي تتحكم في كل مخرج مغربي وإن أظهر العكس، كما نجدها تتجلى بشكل أو بآخر في جل الأفلام الأولى لأغلب المخرجين. إذاً في المغرب تفتقت التجربة الإخراجية لأزيد من خمسة عقود والجدال الكبير المصاحب لها في كل مرة عن آلية مغربية صرفة لدخول معمعة إخراج الفيلم الطويل الأول. وهي تجربة المرور من الفيلم القصير، وذلك تحت تأثير ما شهدته الدورة الرابعة من المهرجان الوطني للفيلم سنة 1995 بمدينة طنجة. وهي الدورة التي أسست لجزء مهم لما تعرفه السينما المغربية حالياً. كما كانت ضمن الأسباب التي قادت بشكل ما إلى اعتبار آلية إخراج ثلاثة أفلام قصيرة قبل الحصول على البطاقة المهنية المخولة لممارسة الإخراج بمعناه الحَرفي والحِرفي. هو إجراء له ما له وعليه ما عليه، فقد حقق هدفه الأول المسطر الذي يتلخص في زيادة الكم الفيلمي مما يشكل معطى مهماً ودالاً لا يجب إنكاره. لكنّ السؤال الذي ينتصب بعد ذلك كبيراً ورئيسياً هو: هل تمكنا من الحصول على السينما التي نريد؟ هل الأفلام الأولى التي تم إخراجها حققت الشرطين الفني والثقافي إبداعياً؟ الجواب يحار بين الإيجاب والسلب، ولتلمسه يجب تحليل ما بعض أفرزته التجربة من أفلام. أفلام مغاربة الخارج نبدأ إذاً من تجربة الاستعانة بمخرجي الخارج الذين قدموا سنة 1995، وقدموا أفلاماً قصيرة خلال دورة المهرجان المشار إليها آنفاً. أعمال سينمائية، تتضمن إبداعاً كبيراً واعداً وزخماً فنياً ملحوظاً، حدت بالكثيرين إلى المراهنة على أصحابها من أجل رفد السينما المغربية بدم جديد، بل والأمنية بإدخالها العالمية. هو أمل كبير عشناه جميعاً لحظتها. الآن وبعد أكثر من عشرين سنة يتبين بأنه متعال على واقع الحال السينمائي المغربي. لقد كانت الإضافة كمية بالأساس وكان وراءها ثمانية مخرجين شباب لم يستطيعوا إخراج فيلمهم الأول إلا بعد سنوات، باستثناء نبيل عيوش الذي أخرج «مكتوب» سنة 1997. جل الأفلام الأولى هذه أظهرت حضوراً غربياً تقنياً وتصوراً أكبر من الحضور المغربي. وتناولت في المجمل ثيمة العلاقة مع البلد الأم والهجرة ومشاكل العيش في أوروبا مع تخير موضوعات تطغى فيها لمسة الآخر الغربي في عديد المشاهد والأفكار المحددة. هذه المعطيات ستصير علامة على جل منتوج مغاربة الخارج الذين سيلتحقون بركب من سبقهم من قبيل طالا حديد، سعاد البوحاطي وآخرين. وبالتالي يمكن القول إننا لم نر تنويعاً من حيث النوع السينمائي المختار ولا من حيث الموضوع. ولم يحدث التلقيح المتوقع بين منتج سينما من أتوا من الخارج ومُنتَج السابقين ومُنتَج المقيمين في الداخل. فقد أنسانا جديد هؤلاء القادمين من أوروبا أن الدورة من المهرجان الوطني المذكور ذاتها عرفت مشاركة سينمائيين شباب من الداخل قدموا أعمالاً قصيرة أولى، ويشكلون بدورهم جزءاً آخر من المخرجين المغاربة له طابعه الخاص، لكن لا تتعدى مستوى التجربة الطيبة، وحين تمكنوا من إخراج أعمال مطولة سادت فيها أيضاً صفات التجربة لا غير مع طغيان الجانب الاجتماعي في حكايتاهم الصورية المتحركة مع قدر من التجديد في الشكل والرؤية. وسيلتحق بهم تباعاً مخرجون آخرون. هكذا يمكن الإدلاء بالملاحظة التالية: تجديد النوعي لا يزال مطروحاً ويجب بناؤه. الانفلات الآلية إذاً استمرت ومنحت للسينما المغربية إنتاجاً متزايداً وأسماء جديدة. وعموماً ظلت السينما المغربية في كل مرة منخرطة في الهم المغربي العام، مع الادعاء بأنها تنتمي إلى ما هو ثقافي تعبيري، وبالتالي «تعالج» موضوعاً ما. في البداية، يتم إخراج أفلام قصيرة ذات نفس فني محترم تعقبها أفلام طويلة يمكن تصنيفها في خانة الأعمال المحترمة «تعبيرياً» عموماً من دون أن تصل إلى تميز حقيقي. بل أكثر من هذا، فقد حدث انفلات جمالي بعد ذلك منذ قرابة العشر سنوات. إذ ظهر إلى العلن جيل جديد من المخرجين استفادوا من الآلية التقنية المتبعة همّهم الأول هو الحصول على البطاقة المهنية عبر إنتاج ثلاثة أفلام قصيرة- أحياناً بالجملة ودفعة واحدة- ثم المرور إلى المجال السمعي - البصري وليس السينما بداية. هكذا أصبحنا نرى أفلاماً أولى تقلد الدراما التلفزيونية في كل شيء، وتأخذ منها بعض خصائصها وموضوعاتها وجماليتها: الكوميدي، الميلودرامي، الاجتماعي البسيط.... إلخ. وهي التي جعلت الدورات الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم تتضمن في الأغلب أفلاماً منتقاة دون المستوى. ويظل السؤال الثقافي والمستوى الفني الرفيع مطروحاً بحدة، ويجب إيجاد حل له وأجوبة عملية كفيلة بتصحيح الخلل الحاصل وتعويض بما يشرف الفن السابع في صيغته المغربية كمقاولة فنية ثقافية فكرية لا تنبذ في الوقت ذاته الفرجة الذكية.