ترددت في وصف الكتاب الذي بين يدي بالكتاب الصعب. ولعلّ الوصف الأدقّ لكتاب هو «تأويل الشعر عند محي الدين بن عربي» لمحمد علي سلامة (المجلس الأعلى للثقافة في مصر) هو أنه كتاب خاص، له مصطلحاته وأبعاده وعباراته المستمدة من كتب ابن عربي بالذات، لا سيما «الفتوحات المكية» و«ترجمان الأشواق». قد يحملنا العنوان إلى مصطلحات نقدية حديثة تختص بفنّ الشعر وتأويله ومعناه وموقعه، لكنّ المسألة ليست على هذا الوجه، وإن كان المؤلف حاول، ولو بخفر، أن يربط بين ماضي الشعر كما نظر إليه ابن عربي وحاضره اليوم. ولعلّ المؤلف أدرك من البداية صعوبة هذا الربط، فكتب تحفظاً أساسياً عن عمله ذكره في المقدمة، هو حذره من «أن نتعسف ونلبس كلام ابن عربي ثوباً حديثاً، قد لا يكون لائقاً به وقد يخرج به عن الإطار الذي يسير فيه» (ص15). ابن عربي- تعريفاً مختصراً به- هو محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي، ولد في مرسية في الأندلس العام 1164 ميلادية وجاب الديار الإسلامية، توفي في دمشق عام 1240 ميلادية ودفن في سفح جبل قاسيون. أحرقت كتبه مرات عدة في التاريخ الإسلامي بسبب اتجاهه الصوفي، وكان آخر من أحرق كتبه قبل عامين أبو بكر البغدادي في الموصل. هو صاحب الأبيات الشهيرة في الحب ومطلعها: «لقد صار قلبي قابلاً كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان»، والبيت الأخير: «أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه فالحب ديني وأيماني». نظرة ابن عربي إلى الشعر هي إذاً نظرة خاصة وتكاد تخرج عن الإطار المتعارف عليه للنقد العربي القديم والحديث، فهو لا يذكر الشعر من باب تقسيم الكلام إلى نثر وشعر، بل يدخل إليه من باب آخر هو باب السماع. فالشعر مثله مثل الغناء والموسيقى وأصوات الريح والماء والشجر والكلمات، أصوات يتلقاها السامع بعد أن يطلقها المسمع. اللغة والخيال إن مسألة السماع هي ذاتها مسألة الإبداع الشعري عند ابن عربي، هي حلقة موصولة معرفياً ووجودياً تتألف من لغة وموسيقى وخيال. إنها مادة النص الإبداعي، تتألف من حلقة ثانية هي المؤلف والنص والمتلقي، والدائرة أو الحلقة بالنسبة إليه، هنا وهناك، فهي أكمل الأشكال، لذا يعطي للمتلقي أو المستمع دوراً قد يفوق دور النص في فهم الشعر وتمثله. والإشارة لا بد منها حول السماع بذاته، سواء أكان للشعر أو الموسيقى والغناء. هذا وكما أن القول لا يكون فقط باللسان، بل يكون بالإشارة وبالصمت، فإن التلقي لا يكون فقط بالأذن، بل بالقلب. ويترك السماع في القلب مثل ما يترك القلم في اللوح. ومن شدة أهمية السامع في السماع، رأى آسين بلاسيوس في كتابه «ابن عربي: حياته ومذهبه» أن ابن عربي يمنع سماع الغناء والموسيقى على المريد المبتدىء. إذاً، فالمسألة تبدأ بالصوت، بالكلمات المنطوقة وتنتهي بتكامل حلقة الوجود. ويرى ابن عربي أن الأساس لما يراه قرآني، فالفرقان يفرق بين الحق والباطل، أما القرآن فمن القراءة. وأساسها الصوت. لذلك فإن السماع عنده - ومن بينه الشعر- عملية لغوية صوتية وخيالية، بل تأويلية وأيديولوجية، ولعله تأثر فيها بعالم المثل في الفلسفة الأفلاطونية. فالسامع لا يسمع نص الكلام الملقى عليه، بل يسمع كلاماً (آخر) راسخاً في ذهنه أو قلبه هو الكلام المثالي الإلهي. الأساسان الجوهريان للتأويل عند ابن عربي هما اللغة والخيال. واللغة ناتج جمع الحروف والكلمات وتنسيقها ودلالاتها، وكما للحرف بمفرده دلالة وفي جمعه مع سواه دلالة أخرى، كذلك للكلمة. على أنه- كما عادته في كل ما يكتب- يضفي طابعاً إحيائياً على أفكاره ومعانيه. أو بصورة أدق يعطيها معنى إلهياً، فهو في كتاب «الميم» يرى إلى الحروف على أنها «أمة من الامم مخاطبون ومكلفون»، والحروف أنواع: حرف اللفظ وهي متصلة بالنفس (الصوت) وهي 28 حرفاً أولها الهاء واَخرها الواو. الهاء متصلة بالقلب والواو مخرج الشفتين. ومن الحروف تتألف الكلمات. والكلمة بالنسبة إلى ابن عربي هي الوجود، كما أنه يربطها بالمسيح عيسى بن مريم «لأن عيسى «كلمة الله ألقاها لمريم» (النساء 170). بالنسبة إلى مفكر ديني كابن عربي: الاصل كلام الله. لكنّ فهمه له فهم ذوق غير متحصل بالدرس والتعلم، حتى أن له كتاباً في اسم الجلالة الله هو «كتاب الجلالة»، وله تبحر في معنى الرحمن ومعنى الرحيم وبحث حول علاقة الذات بالصفات كما له تحليل لأسماء المقابلة: المعز المذل، الأول والآخر، الظاهر والباطن.... هذا لناحية الأسماء والصفات، فإذا وصل إلى الضمائر فإنه يرى على أنها تدل على ذوات غائبة. لذلك فالضمير أقوى من الاسم. وأقوى الضمائر «هو»، لذلك يقال «هو الله». أما حروف الجرّ فهي حروف المعاني، ولكل حرف أكثر من معنى واحد. فإذا وصل إلى الحركات فإنه يعتبرها روح الحرف، ولولاها لما فهم المعنى المقصود. إن الدرس اللغوي في كتابات ابن عربي هو درس علاقة اللفظ بالمعنى ودرسه النقدي كذلك لا يخرج عن هذه الثنائية، وهي ثنائية نقدية قديمة، نجدها عند ابن قتيبة وأبي هلال العسكري وإبن رشيق القيرواني، إلا أن ابن عربي يثقلها بالرموز وسواها والاشارات والتوغل في الظاهر والباطن، وهو كالمتصوفة على العموم قد فهم القرآن فهماً إشارياً غير مرتبط بتحصيل معرفي وعقلي، لذلك يصف هذه الفئة في كتابه «الفتوحات المكية» بأنهم «أميون وعوام الناس» (120 ص227). الخيال عند ابن عربي برزخي الوجود (وسطي) بين العقل والحس بين المعنى والشكل بين الظاهر والباطن. وقد تناول هنري كوربان في كتابه «الخيال الخلاق عند ابن عربي» أهمية الخيال ودوره في نظريته المعرفية. كذلك فعل نصر حامد أو زيد في كتابه «فلسفة التأويل». والخيال عنده هو عين الكمال، جال به الإنسان وصال، وجمع به الأضداد وابتكر ما ليس موجوداً وهو يفوق العقل لأن به يتخيل الانسان ما يريد. ولعله هو القوة الالهية المتكلمة في الانسان، كما رأى فيما بعد وليم بليك، ومنه يتطرق ابن عربي إلى علاقة الخيال بالحلم وتعبير الرؤيا وعلاقته بالصورة وعلاقته بالذاكرة. ويرى أن الانسان الكامل هو إنسان الخيال وله دور في السحر والكرامات والشعر. ترجمان الأشواق كمفكر ديني صوفي، ترتبط نظرة ابن عربي للشعر بالغيب من ناحية، وبثنائية تلازمه باستمرار هي ثنائية الظاهر والباطن. وقد كتب في «ترجمان الأشواق» غزلاً نظمه حال اعتماره إلى مكةالمكرمة، في النظام ابنة شيخ الحرم الشريف. وعاد فشرحه في كتاب «ذخائر الاعلاق في شرح ترجمان الاشواق»، فكتب ما يشبه قاموس الحب الصوفي للكلمات. الطاووس كناية عن جمال الخلق، والظبي والغزلان وسلمى وسليمى والقفر والصحراء و البرق وتهامة ونجد، والطلل والكثب... جميعها ذات دلالة تقود من الخارج إلى الداخل أو كما يقول : «صفة قدسية علوية/ أعلمت أن لصدقي قدما... فاصرف الخاطر عن ظاهرها واطلب الباطن حتى تعلما» (الترجمان). ولعلّ المؤلف على حق حين يشير إلى أنه لولا شرح ابن عربي لرموزه ومفرداته وتوجيه دفتها نحو تأويلاتها الصوفية لما توصل القارىء إلى ذلك من تلقائه. هذا في تأويله لشعره هو في «ترجمان الاشواق»، وهو كما نرى شعر ضعيف من الناحية الشعرية مهما أثقله ابن عربي بالتأويل. وغالباً ما هو أقرب الى الشعر التعليمي، بخلاف الشعر المطبوع لسائر الشعراء. يظهر الفرق بينه وبين ما تناوله هو من تأويل لقصائد ومقطعات غزلية اختارها من مهيار والشريف الرضي وجميل بثينة والمجنون (في محاضرة الأبرار)، إذ إنه تعاطى معها شارحاً 18 مقطوعة مختلفة في الغزل. ولعلّ أهم ما قدمه هو تبيانه دور السامع في عملية السماع. وهو بلغة النقد الحديث، القارىء أو الذي قال فيه بودلير: أيها القارىء المراوغ أخي يا شبيهي.