قرأت احدى الروايات الفائزة بجائزة «البوكر» العربية وأعجبت بجوها وشخصياتها لكنني لم أستطع تحمّل ركاكتها اللغوية. رواية جميلة استحقت فعلاً أن تحل في اللائحة الطويلة بين الروايات المتنافسة على الجائزة التي تعني في ما تعنيه خمسين ألف دولار، ناهيك عن الشهرة والرواج والترجمات. لكن هذه الرواية التي تعتريها الركاكة والضعف أو الهزال في الأسلوب، ستظل رواية ناقصة حتى وان أقبل القراء عليها وحصدت مديحاً واطراء في الصحافة الأدبية. انها عمل ناقص والنقصان الذي يصيبها فادح وليس عابراً. فالرواية لا يمكنها ان تقوم خارج اللغة مهما عظم شأن قضيتها وبنيتها وشخصياتها، ومهما تفرّدت في مناخها وعمقها. رواية بلا لغة هي رواية بلا شكل، ورواية بلا شكل لا يمكن ان يقوم لها مقام. فالشكل، كما عبّر بول فاليري مرّة، هو العمق نفسه قبل أن يخرج الى الضوء. الشكل هو المرآة التي يتجلّى على صفحتها العمق الذي تختزنه الأحوال أو الأفكار الأولى. هذه الركاكة تكاد تصبح «موضة» في الرواية العربية الجديدة والشابة. تسأل أحد الروائيين الشباب عن عدم اعتنائه باللغة فيقول لك متبرماً انه اختار لغة الحياة لا لغة المعاجم والقواميس. قد يكون على حق. لغة الحياة هي الأَوْلى بالاعتناء، لكن ما لا يستوعبه، هو ان لغة الحياة هذه لا ينبغي لها ان تفقد عصبها الذي هو عصب الحياة نفسها. وقد لا يخفي بعض الروائيين رغبتهم في الكتابة بالعامية وهم يكادون يكتبون بها مرتكبين أخطاء شنيعة في الإملاء والصرف والنحو. وليت هؤلاء يحسمون أمرهم فيختارون العامية لغة تعبير لهم. لعلهم يرتاحون ويريحون القارئ فلا يقرأ ويده على قلبه، كما يقال، خوفاً وتحسباً للأخطاء التي تعكر عليه صفو القراءة. لا اعتقد أن نجيب محفوظ ومارسيل بروست وإرنست همنغواي ودوستويفسكي اختاروا لغة غير لغة الحياة. لكن ادراكهم للحياة ولغتها لم يسمح لهم في السقوط في أشراك الركاكة والأخطاء. حتى جيمس جويس وصموئيل بيكيت المعروفان بانحيازهما الى النسج اللغوي لم يتخلّيا عن لغة الحياة، لغة الحياة الحيّة التي لا يمكنها ان تخون فعل الكتابة وجوهرها. إلا أن ما يجب فهمه هنا هو أن اللغة السليمة والجميلة لا تعني التقعّر والكلفة والاصطناع، ولا الوقوع في الإنشائية واللفظية، بل على العكس، فاللغة السليمة هي الأشدّ بساطة والأشدّ متانة في آن، انها اللغة التي تخفي قوتها في سهولتها، سهولتها غير السهلة. قد لا يكون مفاجئاً أن يحب قارئٌ رواية عربية في ترجمتها الفرنسية أو الانكليزية أكثر مما أحبها في لغتها الأم. هذا ما يحصل كثيراً. وأحياناً تكون الروايات العربية هذه من أشهر الروايات وأروجها. تحرر الترجمة الرواية الركيكة من وطأة هذه الركاكة وتمنحها لغة جميلة تلائم جوّها وشخصياتها. انها تكتبها أو تعاود كتابتها بالأحرى انطلاقاً من وعي لغوي تفترضه الرواية نفسها. هذا ما حصل مثلاً لرواية «عمارة يعقوبيان» التي بدت في الفرنسية أجمل كثيراً مما هي في العربية، لغتها الأم. واذكر أنني قرأت رواية «مديح الخالة» لفارغاس يوسا في ترجمتها الفرنسية فشعرت ان المترجم أوجد لها لغة توازي لغتها الأصل، القائمة على لعبة فريدة عمادها الحبك والتعقير المقصود. أما الترجمة العربية لها فلم تولِ لهذه الناحية اهتماماً فأماتتها بدلاً من أن تحييها. الروايات العربية التي «جمّلتها» الترجمة الأجنبية كثيرة وبعضها يعود الى أسماء كبيرة. فالمترجمون الأجانب بمعظمهم جادّون في عملهم، وأوفياء لأنفسهم كما للأعمال المترجمة. وهم يعدّون الترجمة فعلاً ابداعياً يوازي الكتابة. وكم من كتب ترجمت مرّة تلو مرة في سبيل الوصول الى الصيغة المثلى. علاوة على أن الدور الأجنبية تعنى هي أيضاً بما تنشر من أعمال، فتراقبها لغوياً وأدبياً وتسمح ل «القراء» - وهم موظفون غالباً - في أن يبدوا رأيهم ويحذفوا ويصححوا. أما الدور العربية فهي تفتقد بمعظمها لمثل هؤلاء «القراء» ما خلا بضع دور تعتبر النشر رسالة قبل أن يكون تجارة. وهناك دور لا تتولى حتى التصحيح الطباعي، وهنا الطامة الكبرى. قال لي صديق يهوى قراءة الروايات ان الشعراء عندما يكتبون عملاً روائياً يتميزون عن الروائيين لغوياً وأسلوبياً. فالشعراء بنظره، يولون اللغة اعتناء لا يوليه اياها الروائيون. وفي رأيه ان روايات الشعراء أسلس وأعذب في القراءة، فلغتهم جميلة وذات ايقاع داخلي، تتفاعل وتتموّج. لكن الخطر أن تصبح اللغة غاية بنفسها. وضرب لي مثلاً على ذلك وصدّقته. فالرواية لا يمكنها أن تصبح عملاً لغوياً ويجب على اللغة أن تكون واحدة من أدواتها الرئيسة فقط. وأعترف، تصديقاً لكلام هذا الصديق، القارئ النهم للروايات، أنني سررت أخيراً برواية الشاعر أمجد ناصر، سررت بها لغوياً وسردياً في آن. ففي هذه الرواية اعتمد أمجد مراسه اللغوي وحدسه ليكتب ما يشبه الرواية السيرية، من غير أن يتخلى عن الشاعر الذي فيه، ولكن من غير أن يجعله يطغى أيضاً على الروائي الذي يكتب الرواية. لكن مديح الشعراء في أعمالهم الروائية لا يصح دائماً، فثمة شعراء أخفقوا في كتابة الرواية حتى وان تميّزت لغتهم بجماليتها وطلاوتها. ليس عيباً أن يلجأ الروائيون الذين يعلمون انهم مصابون ب «وهن» أو «هزال» في اللغة، الى أصدقاء لهم أو كتّاب، يساعدونهم في «رتق» أخطائهم وتصحيحها، وفي سبك أعمالهم تخلصاً من الركاكة التي تؤخذ عليهم. وأذكر جيداً عندما تعرفت الى الكاتب الألماني الكبير غونتر غراس في اليمن، كيف كان يرافقه صديق له ألماني، حيثما حلّ، وقد علمنا إنه «قارئه» الذي يتولى تصحيح نصوصه كلها، لغوياً وأدبياً. وقد أخبرنا هذا «القارئ» الذي وظفه غراس لهذه المهمة، انه يمنحه كل الحرية في التصرف بنصوصه، تبعاً للثقة التي يوليه إياها.