في مشاهد تقترب من الكوميديا السوداء، يضع مذيع قناة «آفاق» العراقية الشاب مايكرفونه قريباً جداً من وجوه لاجئين من الموصل، ليطرح عليهم سؤالاً واحداً بصياغات متنوعة، ويقترب من التالي: «هل ستنتخبون مجدداً أثيل النجيفي وأخاه اللذين ضيعا الموصل؟». لا ينتظر المذيع طويلاً الإجابة عن سؤاله الصلف الذي لا يعير أدنى احترام للمأساة الجماعية من حوله، اذ كان يقفز الى عراقي أو عراقية جديدة لطرح السؤال ذاته، وليبقى طوال زمن تقريره التلفزيوني متنقلاً بين لاجئين يفترشون مناطق زراعية خارج الموصل بعد أن داهتمهم الحرب، وأجبرتهم على ترك مدينتهم، ليجدوا بانتظارهم مراسلين تلفزيونيين تنقصهم المهنية، وأحياناً العاطفة أو الأخلاق، من الذين يخلطون الحقائق، ويروجون بوقاحة شديدة لأفكار قنواتهم التلفزيونية الحزبية والطائفية. بالطبع لم تشأ قناة «آفاق» العراقية هذه، والتي يملكها السياسي ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، أن تقترب بصدق مما يطفح به الشارع العراقي من غضب من العلاقة بين معركة الموصل والظروف التي قادت لها. فكما يُلقى اللوم في العراق اليوم على سياسيين من أبناء المدينة عملوا لسنوات على نشر خطاب طائفي سيجعل من الممكن على المدينة الثانية في العراق أن تسقط تحت أقدام تنظيم «داعش» الإرهابي، هناك إجماع على مسؤولية المالكي، والذي كان على رأس الحكومة، بنخر الدولة العراقية لفساده المالي وسوء إدارته، الى الحد الذي جعلها مع الجيش العراقي ينهزمان أمام مجموعة صغيرة من الإرهابيين، ولتدخل الموصل الحدباء بعدها فترة مُظلمة طالت لثلاث سنوات. لا يبدو أن بعض الفضائيات العراقية تعلمت من دروس الماضي القريب، فتراها انتهزت معركة الموصل، التي هناك إجماع على شرعيتها ونبلها ويقف وراءها جميع العراقيين تقريباً، لنشر سمومها وأحقادها القديمة، ولتذهب المهنية والحيادية الى الجحيم. حتى غدا من الزائد تماماً أن تتضمن هذه القنوات في برمجتها نشرات إخبارية أو تحليلات لاختصاصيين، اذ كيف يمكن تصديق أخبار وتحليلات هذه القنوات، وهي التي تقوم ببرامجها الأخرى بمخالفة أبسط الأساسيات والأخلاقيات الإعلامية، بل تدخل هي إيضاً في الصراعات العراقية المعقدة، والتي تبدو أحياناً أن لا أمل على الإطلاق بحلّها. واذا كانت معركة الموصل مثلت امتحاناً جديداً سقطت فيه قنوات التحريض والطائفية والولاءات الأجنبية، فإنها أعادت بعض الاحترام للقنوات العراقية الرسمية، على رغم ما اعترى بعض تغطيات هذه القنوات من فوضى وأخطاء مهنية فادحة، اذ إن هذه المؤسسة الإعلامية الرسمية التي كانت في الماضي نموذجاً لفشل الدولة العراقية بعد عام 2003، جذبت منذ بداية تحرير الموصل جمهوراً كبيراً لتغطياتها الواسعة من شوارع الموصل، وقربها من المؤسسة العسكرية الرسمية ما جعلها تحظى بلقاءات وانفرادات حُرمت منها قنوات عراقية منافسة. خصصت قناة الأخبار في مؤسسة «العراقية» ساعات طويلة لتغطيات معركة الموصل، ونقل مراسلوها تفاصيل دقيقة وإنسانية من داخل المدينة المنكوبة، لكنها في المقابل أسرفت في طول تغطياتها الصورية، والتي سقط بعضها في التكرار، كما بدا الكثير منها وكأنه لم يخضع لتحليل أو دراسة من فرق التحرير في القناة، وعرض على هناته على الشاشة، متضمناً تفاصيل تخالف القوانين الإعلامية، كتصوير جثث، أو أحياناً توجيه اتهامات بالانتساب الى «داعش»، عبر الصور التي التقطتها كاميرات «العراقية» لرجال يحملون أسلحة كانوا يسيرون بين الأهالي الهاربين من القتال. قناة الموصلية كحال بعض القنوات العراقية أو العربية التي تظهر فجأة، ويحيط الغموض بميولها أو خلفياتها، بدأت قناة «الموصلية» بثها أخيراً، ويستحوذ منذ بدء عمليات تحرير الموصل من «داعش» على اهتمام شعبي كبير يفوق قنوات تلفزيونية عراقية مكرسة. ذلك أن هذه القناة التي تتخذ شعاراً: «عراقية الهوى موصلية المنبع»، تهتم بالكامل وعلى طوال زمن بثها بالمعارك المتواصلة في المدينة، وهو الأمر الذي سيمنح فريقها الفنيّ الفرصة للتحقيق في جوانب وقضايا محلية من المدينة لا تلتفت اليها بالعادة القنوات التلفزيونية الأخرى. كما تبحث «الموصلية» عن نماذج إبداعية من المدينة لتسلط عليها الأضواء، اذ منحت أوقاتاً لشعراء شعبيين وفتيات صغيرات من الموصل نظموا شعراً عاطفياً مُؤثراً عن المدينة والحنين لأيام سلامها. والواقع أن «الموصلية» التي تبث نشرات أخبار يقدمها مذيعون عرب، اقترفت الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها القنوات العراقية الرسمية، من غياب التخطيط، والضعف الذي يقترب من الغياب للجانب التحريري المهم للتقارير التي تعرض على شاشتها، إضافة الى الإسراف في محاولة تحريك عواطف الجمهور عبر عرض صور قاسية جداً لإصابات أطفال أو جثث متفحمة. هذا في الوقت الذي سمح الوقت الطويل الذي خصصته القناة لمعارك الموصل، بأن تعرض تفاصيل ستكون مهمة على صعيد أرشفة هذه الحقبة من تاريخ العراق، مثل المشاهد الطويلة للهجرات الجماعية لمدنيين، والذين بدوا تائهين ومسلوبي الإرادة تماماً وهم يخوضون في أوحال المدينةالعراقية التي هطلت عليها الأمطار الغزيرة هذا العام.