يلتقط الأب صورة أولاد ثلاثة أمام نافورة مركز بيروت للمعارض - بيال. ومثله تفعل صبية تطالبها مجموعة مرحة من الأصدقاء والصديقات بالتراجع بضع خطوات كي يظهر المشهد كاملاً من خلفهم. هؤلاء أنهوا لتوهم زيارة معرض بيروت العربي الدولي للكتاب وحمولتهم من الكتب أخفّ من حماستهم. لكن المعرض، الذي افتتح «النادي الثقافي العربي» دورته ال54 مساء الجمعة الماضي (ويستمر حتى 16 كانون الأول/ديسمبر الجاري)، ما زال حَدَثاً لا يُفوّت. وهو، هذا العام، يلطّف الأجواء السياسية والاقتصادية الضاغطة على البلد، إذ يفتح، كالعادة، نافذة ثقافية، ترفيهية واجتماعية، يتنفس عبرها اللبنانيون وبعض الزوار العرب هواءً أنقى، مضمّخاً برائحة الكتب. في أعوام ماضية، كان رواد المعرض «يعلقون» في زحمة سير خانقة، قد تستمر أكثر من نصف ساعة، قبل أن ينجحوا في قطع مسافة بسيطة، بين البوابة الخارجية ل «بيال»، ومواقف السيارات الداخلية. هذه الزحمة غير مشهودة هذا العام، حتى الآن على الأقل. غير أن الإقبال ما زال يعتبر جيداً، إنما طبعاً، على الكتب – استعراضاً ثم شراء - أكثر من النشاطات والندوات. مكننة و «ثقافة فلسطين» تطورات عديدة يشهدها معرض بيروت هذا العام. فقد ارتفع عدد دور النشر المشاركة بنسبة 10 في المئة، لينقسم العدد الإجمالي بين 175 دار نشر لبنانية، و 51 داراً عربية، إضافة إلى مشاركة رسمية لخمس دول هي المملكة العربية السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان، ودولة فلسطين. واستوعبت القاعة الرئيسة الدور المشاركة، من دون حاجة للتمدد إلى مساحة إضافية مسقوفة وملحقة بالصالة، كما حصل العام الماضي. وذلك إثر احتجاج «الناشرين الصغار» الذين كانت مبيعاتهم تأثرت سلباً جراء وجود أجنحتهم في «الصالة الملحقة»، حيث لم يقصدهم سوى نزر يسير من زوار المعرض. هكذا، كانت التسوية تضامناً مشتركاً بين النادي المنظِّم و «الناشرين الكبار» الذين وافقوا على تقليص المساحات المعتادة لأجنحتهم لمصلحة زملائهم الأصغر منهم. ومن جديد المعرض أيضاً تجهيز ثلاثة أجنحة صغيرة هذا العام بشاشات ذات محركات بحث إلكترونية، تسهل على أي زائر إيجاد ما يبحث عنه، تحت خانة عنوان الكتاب، المؤلف، دار النشر، أو الموضوع. إضافة إلى خدمة «واي فاي» في أرجاء المعرض كافة، وهي تتيح لأصحاب الهواتف (المجهزة بتقنية الاتصال بالإنترنت) الدخول مجاناً إلى قاعدة البيانات وإجراء عملية البحث نفسها. أما من حيث المضمون، فهي المرة الأولى التي تشكل فيها القضية الفلسطينية تيمة جامعة لكافة نشاطات «النادي الثقافي العربي» وندواته طوال أيام المعرض. علماً أن بعض الجمعيات ودور النشر ينظم ندوات أدبية وفكرية مستقلة، وأمسيات شعرية. يقول الرئيس الجديد ل «النادي الثقافي العربي»، فادي تميم، إن «الأوضاع السياسية والاقتصادية - الاجتماعية الصعبة في فلسطين، دفعتنا إلى اتخاذ قرار بالتركيز على القضية. فمثلاً نستضيف عزمي بشارة في محاضرة حول الوضع الفلسطيني الراهن. وهناك ندوة حول حصار غزة، وأخرى حول حقوق الفلسطينيين في لبنان...». نسأله ما إذا كان التوفيق بين التيمتين الثقافية والفلسطينية ممكناً. كأن يُفتح نقاش حول الأدب والشعر الفلسطينيين، مثلاً. أو كأن يُسلّط الضوء على الفنون الشبابية البديلة في مخيمات اللجوء، من نوع أغنيات «الراب» الفلسطيني الصاعد، وغيرها من الظواهر. ألا يكون ذلك أكثر انسجاماً مع معرض للكتاب، كتظاهرة ثقافية هي الأبرز محلياً كل عام، بدلاً من تقديم الموضوع بنكهة تضج بها وسائل الإعلام يومياً؟ يجيب تميم بشيء من الإصرار: «منذ تأسيس النادي، قبل نحو ستين عاماً، انصبّ اهتمامه على الشؤون القومية والوطنية. القضية الفلسطينية ترتفع فوق كل الانقسامات، وهي حاضرة دوماً في نشاطاتنا، ومنها تنظيمنا السنوي لمعرض الكتاب. الفرق أننا هذه المرة جعلناها عنواناً موحداً للندوات، إضافة إلى عروض سينمائية وتكريم فنانين فلسطينيين». «الأكثر مبيعاً» تتوقف مراهقات ثلاث أمام أحد أجنحة المعرض، ثم تعلن أحداهن بشيء من الخيبة أن «ما في أبراج!». فهي التي، كما يُفهم من تأنيب صديقتيها، كانت قد أمّلتهما بالحصول على أحد كتب الأبراج للعام الجديد بسعر أرخص. يبدو مطلبهن بديهياً ومتوقعاً لمن دأب على ارتياد المعرض ومتابعة تغطياته الصحافية، عاماً بعد عام. فكتب الأبراج والطبخ والقواميس، وبعض الكتب المدرسية والدينية، غالباً ما تتصدر لائحة «الأكثر مبيعاً» من الناحية الجماهيرية. أما بقية المصنّفات، من روايات ودواوين شعر وكتب فكرية وسياسية، فقلما يتسلق أحدها تلك اللائحة إلا بدعم حشود حفلات التوقيع. يتفاءل صاحب «الدار العربية للعلوم»، بشار شبارو، بالمعرض هذا العام، إذ تدل أيامه القليلة الأولى إلى تحسّن في مبيعاته بنسبة 15 إلى 20 في المئة، مقارنة بالعام الماضي. لكنه يُبقي على رؤيته «المحزنة» لمبيعات دور النشر اللبنانية عموماً على مدار العام، «فحتى أكبر دور النشر في لبنان لا تتخطى مبيعاتها المحلية نسبة 10 في المئة من إصداراتها، وبتنا نتكل على التصدير ومشاركتنا في المعارض العربية». أما أكثر الكتب المطلوبة لدى داره فتبقى الروايات والكتب ذات الطابع السياسي، الأمر الذي تؤكد لائحة الإصدارات الجديدة في المعرض أنه لا ينطبق على «العربية للعلوم» وحدها. فما عدا بعض الوفرة في كتب الشعر، التي يعتمد ناشروها على «نشاط» مؤلفيها في دعوة معارفهم إلى حفلات توقيعها، وليس على «شعبية» الشعر نفسه، تنال الروايات والكتب السياسية حصة الأسد من اهتمام دور النشر عموماً. غلاء وأزمة ترجمة تتفق مع شبارو مديرة التحرير في «دار الساقي»، رانية المعلم، بشأن حركة المبيعات الأفضل هذا العام. وكذلك مديرة «دار الآداب»، رنا إدريس، التي تنوّه أيضاً بتأثير مبيعات «الجملة»، لمصلحة الزوار من التجار العرب، على تفعيل الحركة. غير أن المعلم وإدريس لا تنكران مشكلتين أساسيتين تتردد الشكوى بشأنهما في أروقة المعرض: ارتفاع الأسعار، وتراجع إصدارات الكتب المترجمة التي انحسرت في «الآداب» بنسبة 30 في المئة، بحسب إدريس، على رغم أن الترجمة شكّلت جزءاً من صيت الدار، لا سيما على صعيد الأدب العالمي. وذلك، كما تقول إدريس، بسبب ارتفاع أجور المترجمين التي تضاف إلى كلفة الإصدار ليصبح أحياناً أغلى من الكتاب - الأصل، ولا يعود سهل التسويق. أما الزيادة على أسعار الكتب فتعزوها المعلم إلى ارتفاع أسعار الورق أخيراً، «لا سيما النوعية الجيدة التي نحرص على اعتمادها، لكننا نوازن الواقع هذا بالأسماء المعروفة لمؤلفينا»، معتبرة أن حفلات التوقيع تساعد كثيراً لأنها ترتكز إلى شبكة علاقات الكُتّاب. وإذا كانت الصورة مشرقة، نسبياً، بعيون دور النشر الأكبر حجماً والأوسع شهرة، فإنها ليست كذلك بالضرورة في نظر أو واقع «زميلاتها». إذ تتمدد أمارات الضجر على وجوه العديد من الموظفين المداومين في ما لا يقل عن نصف الأجنحة اللبنانية والعربية. وهذا ما يفسّر لجوء قسم لا بأس به منها إلى الاستعانة بالجاذبية التجارية للقرطاسية وأقراص «سي دي» و «دي في دي»، إلى جانب اللوحات الدينية والهدايا الصغيرة من حمّالات مفاتيح وما شاكل. وهنا تخطر في البال ملاحظة أحد الزملاء الصحافيين ممن غطوا معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، قبل أسابيع. فعلى رغم الرحلات المدرسية المنظّمة، والنشاطات العائلية المدرجة في الجدولة، من قراءات قصصية وعروض تعليمية، إلا أن «المعرض الفرنكوفوني حفل بزوار أكثر اهتماماً بالكتب النوعية المتوفرة فعلاً في مختلف المجالات»، كما يخبر، لافتاً إلى عائلات كانت تأتي مجتمعة، وكل فرد منها يبحث عما يناسبه ويشتريه. هل أصبحت القراءة بالعربية في حال غربة، لا سيما في ما يخص الأطفال والفتيان؟ هل للملاحظة علاقة بثقافة تربوية عربية لم تطوّر نفسها كفاية لتخاطب الأجيال الجديدة فتستجلبهم عبر «انفصام» اللغة بين اللهجات المحكية والفصحى المكتوبة؟ وماذا عن أزمة القراءة العربية عموماً؟ وتأثير التزوير وإدراج الكتب مجاناً على الإنترنت؟ مثل هذه الأسئلة، وغيرها، ينتقل في نهاية كل جولة كُتُبية أو منتصفها، مهما طالت أو قصرت، إلى جلسة الاستراحة في «الكافيتيريا». هنا، يتواعد كُتّاب ومثقفون وصحافيون. ولعلهم يتلاقون بمحض الصدفة التي تصبح جزءاً من روتين محبب طوال أيام المعرض، كل عام. يتسرّب بعض لهوهم ونقاشاتهم، مع دخان سجائرهم، إلى الطاولات المجاورة. وتختلط أصوات أطفال مطالبين بأكلات خفيفة، بضجّة سلامات وقُبُلات بين معارف لم يلتقوا منذ زمن. هنا، مع فنجان قهوة، قد يضحك المرء لدعابة سريعة يرميها صديق عابر بين المقاعد البلاستيك، قبل أن يسحب من الكيس كتاباً جديداً ويفتحه على الصفحة الأولى.