في ديوانه الثالث «ألهو بوريقاتي» (دار ألف ليلة)، يرسم الشاعر جوزيف دعبول عالماً موازياً يهرع إليه هرباً من عالم الخراب الذي يحيا فيه. يختار أفقاً بعيداً يركن إليه ليمارس عادة الحلم بعيداً من عيون مدينةٍ غارقة بالوحل. يختبئ وراء صورة «أوليس» الفارّ من حرب طروادة، يرتدي قلقه ويدور في متاهته حتى يكاد يصيره، فيكتب: «يدخل صاحب الإيماءات لوحة معلقة على وجه نهر/ يختلّ توازنه، أصفر اللون/ تعاويذ الانتماء/ يستلقي على سرير ممحوّ/ يستمع إلى أغنية فضاء أغبر/ يحلم بلوحة أخرى/ بامرأة ساحرة/ يعدو خلفها في طرقات غير ملوّنة/ يلفّه ضباب يتلوّن» (من قصيدة «أوليس في المتاهة»). وليس القلق حالة في قصيدة دعبول وإنما جزء ثابت من شخصيته وشخصية المكان الذي ينتمي إليه، فمرّة يستكين لقلقه ويُغذّيه ليصنع به قصائده، ومرّة يهرب منه إلى غيمةٍ تأخذ أشكالاً نرسمها بمخيلتنا. هكذا نراه في عبورٍ دائم، شاعر ثائر على حافة الرحيل: «أرفض الحماقات الرؤيوية/ انتظار الشمس/ وصفارة القطار/ وأودّع أشخاصي/ أوضب المرايا في أكياس سود/ سأعود في الصباح/ وأشتري نوارس البحر/ أسماكه/ والشمس/ وأدعو الظلّ/ لكن تعوزني رحلة في القطار»... قصيدة جوزيف دعبول هي مثله أيضاً تائهة بين الكشف والتمويه، بين القول واللاقول، بين الوعي واللاوعي. إنّها لغة ثائرة يتحرّر فيها دعبول من كلّ القواعد والأنماط والأساليب التي طوّقت الشعر ومنهجته. هكذا تأتي صوره متدفقة، جامحة، ينقلها بلغة خام، قد تراها جميلة في انفعالها حيناً، وشديدة في انفلاتها أحياناً. ومع ذلك، يظلّ الشاعر في هذا الديوان أكثر «انضباطاً» مما كان في ديوانيه السابقين «الأخبل» و «البحر وردة الرؤيا»، بل إنّ التجربة الشعرية نفسها بدت أكثر اختماراً وهدوءاً. وليست هذه الثورة الشعرية سوى بديل عن ثورة إنسانية غير ممكنة في عالمٍ قاسٍ، يستقوي فيه القادرون على الضعفاء والمتلاعبون على الأنقياء. عالم مرعب يدوس فيه المارّة الناس المتعثرين بلا رحمة: «يتجمهر المارّة محملقين/ ينتظرون أمراً عجباً/ يسقط الرجل إلى الأرض/ يدوسون عليه وينطلقون». لذا، فإنّ المنطقة المشتهاة تظلّ هي الحلم، ولا يقول الكوابيس لأنّ الواقع غدا بطابعه الجنوني كابوسياً، والأصح أبوكاليبسياً، ينهار فيه كلّ شيء أمام عجزٍ جماعي. «في الحلم أبرمجُ حياتي/ أدخلُ بيت الحبيبة/ وأحلمُ أنني أحلمُ فأعانق/ حلمي وأراقب أشياءها/ الجميلة/ وأصبح لها»... ولعلّ القصيدة الأولى التي يفتتح فيها الشاعر ديوانه، هي مقدمة بلا عنوان لهذا العالم المرعب: «تقدّم خطوةً خطوةً نحو الخندق/ لا تتعجّلِ الوصولَ/ قد يكون العصفور عدوّك»... إنه عالمٌ لا آمان فيه، الحياة هي خندقٌ والأعداء قد يتنكّرون بهيئة عصافير. تنكسر حدود اليقين والرؤيا في هذا الديوان ويرتدي الخيالُ ثوب الكلمات، فيعود إلى الماضي، يتلطّى خلف التاريخ، ويختارُ من الميثولوجيا أبطالها ليواجه بهم أبطال هذا العالم الممزّق. «غيرتُ جلدي مرّات أمام الشمس/ دخلتُ إلى أكفان الفراعنة/ ليعبقَ الهرم الكونيّ بالبخور السلس/ نوّمتُ على حريرٍ/ ونظرتُ إلى الجماجمِ المضيئة/ الضفادعُ تتقافز داخل المرايا/ وهرمسُ صولجانُ الرؤيا إلى أفعى حسناء...» (أبجدية). وفي وقت يلهو الناس بالحروبِ، يلهو الشاعر بوريقاته، بقصائده، بكلماته التي تزواج بين الواقع والخيال. وهو يصف حال الشاعر في زمنٍ «يسيل فيه الدم حارّاً» بأنه الخارج من تحت قنطرة النهر حيث «الماءُ يرمّمُ العظامَ ويرسمُ وجهَ الشاعرِ». «ألهو بوريقاتي» ديوان صدر أولاً بترجمته الفارسية التي أنجزها محمد حمادي (دار أردمان) الإيرانية، ثم بالعربية عن دار (ألف ليلة) القاهرية، يضمّ مئة وثماني وعشرين قصيدة لا تفصلها عناوين داخلية، فكأنها متّصلة في جوّها، وإن تداخلت بعض القصائد مع نصوص نثرية تحمل روح القصائد نفسها: «عيناي تزوغان، من يلملم نظراتي ويجلوها. الأفكار حلزونية، دهاليز، أسقطُ. دخلَ المغارة منكسراً، افترشَ الرطبة وعتمة موبوءة، نحتَ قبره في عينيه وأغمضهما على فَتاته. جادلتْه بالصدفة، بالبكاءِ الأسود، بالعنكبوت، بالطحالب، وبالرميم»... يكتب جوزف دعبول قصيدة النثر بصفتها كتلة واحدة وقصيدة النثر الأخرى الموزعة أسطراً مثل الشعر الحر، لكنه في كلا النوعين يبلغ مصافاً تعبيرياً متعالياً عن الواقع وعن اللغة الوصفية محولاً القصيدة إلى حال من الغنائية المجروحة بالحنين والعذوبة والأسى.