بمجرد أن تقرر ركوب إحدى حافلات «خط البلدة» التي لا تتعدى تسعيرتها الريالين، ستجد نفسك مجبراً على معايشة قصص ركاب وسائقي الحافلات، فلا مفر من «الفضفضة» التي تضج بها الحافلة حتى انتهاء الرحلة. وإذ جالت «الحياة» مع سائقي الحافلات، ودخلت عالمهم لرصد همومهم، فقد برز أخيراً تدني دخل المشتغلين في هذه الخدمة كهاجس يؤرق سائقي الحافلات، على رغم الرحلة المرهقة التي تتجاوز مدتها 12 ساعة يومياً. الركض المستميت في سباق مع الزمن شعار حملوه، وإذا كان هذا الركض يوماً ما كافياً للحاق بمحطة العيش الكريم، فاليوم لم يعد يفي. والنتيجة أن سباق سائق «خط البلدة» ينتهي بالوصول إلى محطات الركاب جميعاً، إلا محطة حلمه. يقول السائق الذي جاوز ال60 من العمر جمعان الغامدي ل«الحياة»: «إن دخل العمل في حافلات خط البلدة تضاءل كثيراً، والسبب يعود إلى تأجير بعض الملاك حافلاتهم لسائقين وفق اتفاق يقضي بتسليم السائق 150 ريالاً كأجرة يومية لمالك الحافلة، إضافة إلى مزاحمة بعض ال«باصات» في نقل الركاب على «خط البلدة» من دون تصاريح رسمية»، مضيفاً أن هذا التصرف خلّف كارثة حلت بدخلهم الشهري، وبالتالي أسرهم التي يعولونها، «حتى أمكن وصف حالنا المادية بالسيئة للغاية»، موضحاً أن دخله اليومي يتراوح بين 70 و 120 ريالاً كحد أقصى، كاشفاً «هذا الدخل لا يكفيني لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية لأسرتي الكبيرة». ويتابع: «على رغم أنني أنطلق في طلب الرزق على حافلتي بعد صلاة الفجر مباشرة، ولا أعود إلا عند صلاة المغرب، ومجمل ساعات عملي لا تقل عن 13 ساعة يومياًَ، لكنني بالكاد أكسب 120 ريالاً كحد أعلى». ويبدي الغامدي ملله ويأسه من العمل في الحافلة قائلاً: «لم تعد تأتي بهمها»، إلا أنه يردد المثل المعروف «ما يرميك على المر إلا الأمر منه». وعن مساعدة أبنائه له في النفقة وتحمل بعض الأعباء عنه، يبتسم الغامدي بأسى قائلاً: «لي ولدان يعملان في القطاع الخاص، بمرتبات شهرية لا تتعدى ثلاثة آلاف ريال، لا تكفي لمصاريف أسرهما، وأحياناً يضطران إلى الاستدانة مني». وعلى رغم السنين الطوال التي أناخت على عاتق الغامدي، وأجبرته على اللهاث اليومي المر في طلب الرزق، يشدد الغامدي رفضه مساعدة أبنائه له في العمل حتى أثناء أوقات فراغهم. ويقول غاضباً «لا أريدهم أن يمتهنوا هذه المهنة أبداً»، مشيراً إلى أنه يحض أبناءه على الاهتمام بالتحصيل الدراسي والتسلح بالعلم، وهذا أثمر له ابناً يواصل دراسته الجامعية حالياً. وبين الحسرة من عدم استمثار مداخيل «الحافلات» أيام الطفرة التي لم تكن تقل عن 12 ألف ريال في الشهر متجاوزة مرتبات الموظفين الحكوميين بمراحل، ومداخيل الحافلات اليوم، يكتفي الغامدي بفرحة محدودة بتمكنه من امتلاك منزل شعبي يستر أسرته. ولا يخفي الغامدي أن سعادته تكبر عندما يجد راكباً لا يملك قيمة الصعود معه الحافلة، فيبادر برضى إلى التنازل عن الأجرة. أما السائق عبدالله البقمي الذي ناهز ال70 عاماً فيشكو من القيادة اليومية التي ألحقت بصحته أضراراً بالغة، وأتلفت عظامه، لكن شظف وصعوبة الحياة تجبره على مهادنة المقود حتى لا يضطر لمد يده إلى أحد. وأوضح البقمي الذي يعول خمسة من الأبناء والبنات أن دخله اليومي لايزيد على 100 ريال، وديونه تجاوزت ال24 ألف ريال. ويقول: «لدي ثلاثة أبناء، وهم موظفون حكوميون، اثنان منهما لا يعطياني ولايأخذان مني «قرشاً»، أما الثالث فيعطيني عند الحاجة»، مشيراً إلى أنه يستيقظ صباح كل يوم عند السابعة ويستمر في التجول بحافلته حتى الثالثة عصراً منذ سنوات طوال، والحصيلة كانت بيتاً شعبياً عمره زاد على 25 عاماً. ويبدي البقمي أسفه من تعامل بعض سائقي الحافلات من الشبان مع «كبار السن» من سائقي الحافلات، واصفاً هذا التعامل بالطيش والسفه. وعلى متن إحدى حافلات خط البلدة ألتقت «الحياة» أحد سائقي الحافلات الشبان محمد الصبحي (30 عاماً)، فقال: «إنني أشتريت هذه الحافلة ب 50 ألف ريال على رغم موديلها القديم». وحول كيفية شرائه للحافلة على رغم قرار منع نقل ملكية الحافلات، أوضح أنه كتب ورقة مبايعة وقع عليها المالك السابق واثنان من الشهود، متحملاً في سبيل ذلك معضلة استدعاء المالك الأصلي كلما أوقفت سيارته لدى المرور. ولفت إلى أن دخله الشهري بعد الإصلاحات التي يجريها على حافلته لا يتجاوز ألفي ريال، وهو ما يدفعه إلى التمرد على خط سيره المقرر له، وسلوك طرق أخرى سكانها من المقيمين والطلاب وهم أكثر إقبالاً على ركوب الحافلات.