لم يكن سينودُس مسيحيي الشرق الأوسط، والذي مضى شهر ونيف على اختِتامه، عادياً. وذلك يعود الى أن الكرسي الرسولي شاء، وفي لحظة مفصلية من تاريخ مهد المسيحية، وحتماً مساحة لقاء ديانات التراث الإبراهيمي، وفي حين بات المسيحيون يعايشون هاجس التقهقر الإتنوغرافي المتنامي، شاء الكرسي الرسولي، أن يبادر مباشرة الى لمِّ شمل أبنائه المشرقيين الكاثوليك، مع استمرار نهج دعوة الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية ومرجعياتٍ اسلاميةٍ ويهودية، للمشاركة في هموم أبنائه. ربما لأنه أمسى على تماسٍّ مع استشعار خطر هجرة هؤلاء من أرضهم من جهة، أو لأنه قرر استعادة دور الدينامو القانع بأن المسيحية الغربية في عقلانيتها لا تستقي ألقها الوجودي سوى من كيانية المسيحية المشرقية من جهة أخرى. على أن المسيحية الغربية، وعلى الرغم مما تعانيه من ترهلٍ تديني يستدعي من بابا روما صرخات استنهاضٍ لجذور أوروبا فيها، كان آخرها منذ أسابيع من اسبانيا، على الرغم من هذا الترهل في سياقٍ سوسيو-سياسي، ما زال فيها إمكان استنفار عصبٍ تديني يفرضه إرباك مدٍّ إسلامي متنامٍ في قلب القارة الأوروبية تغذيه تشوهاتٍ تطرفُ وتطرفٍ مضاد. وكأن المسيحية الغربية تتطلع في ما سبق الى تعلم معنى العيش معاً من رحم منشئها المشرقي، أكثر منه استنطاقاً لمحاذير تفتت المدافعين حتى هذه اللحظة، وبقرارٍ جريء، عن شهادةٍ للحق والحرية في شرقٍ يتسيّدُ فيه الظلم والاستبداد. قد تكون هذه المقاربة إبحاراً في عكس ما رمى اليه الكرسي الرسولي في الظاهر من دعوته الى سينودس لمسيحيي المشرق، إنما في تفكرٍ هادئ ربما يجدر بنا التوقف، ومن دون الغوصِ في تفاصيل النداء الأخير، بل استلهام روحيته، عند محدورين تأسيسيين كما انتصارين تأسيسيين لأي رهانٍ على دورٍ نهضوي إنساني مستقبلي لمسيحيي المشرق، بمنأى عن اصرارات التيئيس الإيديولوجية التي ينتهج سبيلها بعض المسيحيين، ويجاريهم في ذلك مسلمون. ولدى كلٍّ من هذ البعض، إما قصرُ نظرٍ، أو تجاهل لسياق التاريخ، لأكثر من غايةٍ في نفس يعقوب. المحذوران التأسيسيان الواجب على المسيحية المشرقية تفادي الانزلاق نحوهما، وإلا تنحو باتجاه انتحارٍ اختياري، قائمان في عنوانين: أولهما رفض منطق الأقلوية وما يستدعيه. وثانيهما رفض منطق الحماية وما يستدعيه. أما الانتصاران التأسيسيان، فيتمثل أولهما بقرار الشهادة لقيم الديموقراطية والتعددية والحرية وحقوق الإنسان، وثانيهما باستعادة وهج القضية الفلسطينية، من منطلق أن أي خيار تسالمٍ فيها يجب أن يُبنى على العدل. وفي ما يلي محاولة استقراء المحذورين والانتصارين، عسى أن يكون السينودس، كما في جذره اليوناني، مسيرةً معاً، نتطلع فيها الى ما يؤنسن خياراتنا ويرسخها، أكثر منه يسطح تطلعاتنا ويحطمها. أ - الأقلوية خطأٌ شائع ليس مسيحيو المشرق طارئين، لا على الجغرافيا في امتداداتها من المحيط الى الخليج، ولا في تاريخ هذه الامتدادات بكامل تشعباتها اللغوية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية، بل حتى في احترام خصوصية تعدديتها الدينية. وان كانوا غير مقتنعين بأنهم غير طارئين، فهذا يستدعي تجاوزاً لغريزة الخوف من التراجع الديموغرافي. فبين ان تدرس أسباب الهجرة وانخفاض الولادات لبناء استراتيجية إحياءٍ للشهادة المسيحية، وأن تستحيل محكوماً بهاجس اللاوجود جراء الأسباب عينها ما يجعلك فريسة هلع الاستمرار، بين الاثنين بونٌ شاسع، وعلى الأرجح، رمى نداءُ السينودس الأخير الى تظهير الحاجة الى منظومة متكاملة توقف النزف، أكثر منه الى تعميم الارتجاف من نقصٍ عددي. وفي هذا المرمى بُعدٌ قياميٌّ لا إحباطيّ. ب - الحمايات وهمٌ انتحاري ثمة من يُنظّرُ، وبالاستناد الى «أقلوية الخطأ الشائع»، لإلحاح استدعاء حمايةٍ خارجية وداخلية لمسيحيي المشرق. ويُعرف الحماية الخارجية بضرورة تكوين تحالفاتٍ عابرةٍ للقارات قاعدتها دينية، فيجدُ في مسيحية الغرب حليفاً بدلاً من أخيه المسلم، لينسُج في مخيلته محاور صدامية. كما يُعرِّف الحماية الداخلية بضامنين: الأول ينحصر في الترويج لتحالفِ أقلياتٍ، والثاني يتجلى بالانخراط في التصاقٍ مع منظومات استبدادٍ تشيّع قدرتها وحدها على صون حقوقه، الدينية منها والمدنية. النداء الأخير للسينودس، وفي دعوته للنضال من أجل دولة المواطَنة ومبدأ العيش المشترك بمساواة معيوشة، لا مفتعلة، أكد أن أيّاً من الحمايات الداخلية والخارجية وهمٌ انتحاريّ. والرهان على الحقوق، لا يستقيم إلا بدول ديموقراطية تسودها الحرية ويحميها قانون ومؤسسات. أما فرضيات الفدرلة في معناها الانعزالي والعزلي، فهي ما كانت أساساً في أيّ لاهوتٍ مسيحي، مشرقياً كان أو غربياً. من «الأقلوية خطأً شائعاً» و «الحمايات وهماً انتحارياً» كمحذورين تأسيسيين، حدد معالم تفاديهما نداء السينودس الأخير، نتج انتصاران تأسيسيان، يمهدان لتحديين في الشهادة، الواجب أن يضطلع بها مسيحيو المشرق، عنيتُ النضال لإنسانية الإنسان، واستلهام فلسطين قضية حق وعدل. أ - المحور كرامة الإنسان لا أيديولوجية أو عقيدة تسمو على كرامة الإنسان، وأيُّ تمييز انتهاكٌ لهذه الكرامة. وكرامة الإنسان ضمانتها دول ديموقراطية تحترم التعددية، ويتسيد فيها العدل. حتماً قد يستسخف البعض بهذه الضمانة لتأكدهم من أن لا إمكان لتأمينها. لكن الاستسلام قدرُ الجبناء، والمسالك الوعرة قدر الأقوياء. ومساحة التراث الإبراهيمي بين اليهودية والمسيحية والإسلام تتشارك في إعلاء شأن الإنسان. أما من انزلق لخيارات أدلجة عقديةٍ للدين تقتل كرامة الإنسان، فذاك الأديان منه براء، ويكفينا استنفاراً للغرائز والمضادة منها. نداء السينودس الأخير راهن على كرامة الإنسان المشرقيّ العربي بالاستناد الى انسانيته، لا انتمائه. فهل من يفقه؟ ب - فلسطين القضية ما أتى السجال بين الفاتيكان واسرائيل بسيطاً على خلفية ما ورد في نداء السينودس الأخير، ما معناه أنه لا يمكن القبول بتوسل الدين قاعدة للظلم، وبأن السلام لا يصنعه سوى العدل، وبأنه آن أوان قيام دولة فلسطين، وعودة اللاجئين، ووقف الاستيطان، وادانة الجدار الفاصل. انتصر الفاتيكان، وفي محطةٍ حاسمة، لفلسطين. ليس هذا بجديد، سوى على أولئك المصرِّين على توريط مسيحيي الشرق بمحافل تشويه السمعة والتآمر والأسرلة. المسيحيون رأسُ حربة في الذود عن فلسطين قضية عدلٍ وحق، لا مطية استغلال، وورقة مقايضة أو مساومة، كما يحاول البعض التوصيف. فلسطين هَمٌّ مسيحيٌّ - اسلامي، ولِمَ لا يهوديٌّ متنور بات يترجم ذاته في مهاجمة عنصريةٍ صهيونية أساءت الى اليهودية نفسها قبل كل شيء. مسيحيو المشرق ليسوا أقلية. لا يحتاجون حماية. هم مسؤولية أنفسهم قبل أيٍّ كان. من العراق الجريح الى لبنان المصادر، لا خوف عليهم بالرجاء، ضمانتهم العيش المشترك والنضال من أجل الدولة المدنية. الإحباط ممنوع، وإلا فقد المشرقُ معناه. سينودس مسيحيي الشرق الأوسط أطلق لاهوت تحررٍ بعد أن اعترضت عليه الفاتيكان في أميركا اللاتينية. وهذا يقتضي قراءةً جديدة في أن شهادة مسيحيي هذا الشرق المعذَّب نوعية لا كمية. * كاتب لبناني