-1- رحلة طويلة شاقة وممتعة أيضاً، تلك التي قطعها الشاعر سيف الرحبي مع الشعر ومع الحياة بخاصة. عاش بداية شبابه، أو بالأصح الشطر الأكبر منه، راحلاً على كف رياح لا تدري إلى أين الاتجاه، لكن بوصلة الشعر كانت الوحيدة التي لم تنحرف عن مسارها، فقد ظلت تقوده إلى حيث يريد، مستفيدة من كل المشاق والصعوبات التي تعرض لها، وكانت بمثابة القربان الذي لا بد منه لاستنهاض كل ما تمتلئ به روحه القلقة النافرة من أحلام وأشجان وكوابيس، تعرفت عليها من خلال مرافقتي له منذ أوائل بداياته الشعرية التي ظهرت مكتملة متميزة، وكأنه كان يعرف قصائده منذ طفولته وقبل أن يكتبها بسنوات. منذ «نورسة الجنون» العمل الأول، وحتى آخر عمل منشور «حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة»، وقلبي وطرفي معلقان بكل ما يبدعه هذا الشاعر الفذ بموهبته العالية وحسّه الإبداعي، فقد ربطتنا - على القرب وفي البعد - صداقة حميمة أعتزّ بها وأعتبرها من أثمن ما اكتسبته في هذه الحياة، التي لا تخلو في وحشيتها القصوى من محطات ظليلة دافئة، ومن أهمها المحطات التي تجمعنا بهذا العدد من الأصدقاء وبما يفيضونه على الروح من أمن وصفاء. وكما تابعت الشاعر سيف قراءةً، فقد تابعته بالكتابة، التي منها ما ظهر ومنها ما لم يجد طريقه إلى النشر، ومن تلك الكتابات الأخيرة هذه القراءة التي عثرت عليها منذ أيام مطوية داخل كتاب كنت عاكفاً على قراءته في منتصف تسعينيات القرن الماضي ثم ضاع مني بين الكتب المتراكمة، وكانت عن مجموعة (رجل من الربع الخالي) الصادرة عن (دار الجديد بيروت 1993). و(رجل من الربع الخالي) رحلة شعرية تكشف في الجانب الأكبر منها عن عالم غفل مجهول يجمع بين الواقع ونقيضه، وتخوض مع احتمالات المتخيَّل عوالم أسطورية غاية في التقارب والتنافر. ولا أعدو الصواب إذا ما قلت إن هذا العمل الشعري البديع يقترب مما بات أخيراً يسمى بالسيرة الذاتية، التي وإن خلت من السياق النصي المتماسك، فهي لا تخلو من مشاهد ولقطات لسيرة حياة هذا الرجل القادم إلينا من أراض على مقربة من الربع الخالي، ذلك الجزء من الجزيرة العربية الذي كان ولا يزال مجهولاً بالنسبة لأبنائه، فضلاً عن الآخرين، ويظل الشاعر سيف الرحبي الأجدر والأقدر على أن يخوض بإبداعه الشعري مجاهل هذا الربع الخالي من الحياة والناس، والممتلئ بحشد هائل من الأساطير والمرويات التي تفتقر إلى المقاربات التي يجد فيها الشعر ضالته، مع احتمال أن يكون هذا الربع الخالي معادلاً، مسقطاً على وطن الشاعر، الذي كان إلى ما قبل ثلاثة عقود من الزمن خارج العصر وأبعد ما يكون عن الحاضر، بكل تطوراته ومتغيراته. هكذا تبدأ رحلة الشعر في أودية الربع الخالي وشعابه المهجورة، ويغدو المدلول الواقعي في تشكله الشعري أكثر اقتراباً للإدراك من المدلول المتخيَّل، وهنا تتجلى براعة الشاعر واستغلاله المميز لمفهوم الإيهام، والحديث عن الحسي مغلفاً بشفافية الشعري المتخيل، ويبدو لنا الربع الخالي متاهة عسيرة على الاقتحام، رافضاً الكشف عن أسراره وكنوزه إلاّ للشعر وحده: «في الليلة الأخيرة التي تشبه قلباً/ ينفجر على منعطف/ في هذه الليلة/ أصغي بين أضلعي لزئير الأجداد/ ذاهبين إلى الحرب/ لأولئك القادمين من أغوار السنين/ بحثاً عن مكان بين أضلعي والمسافة» (رجل من الربع الخالي: ص11). -2- تجربة فريدة ورائدة تلك التي أنجزها الشاعر سيف الرحبي في مجال الشعر والكتابة الإبداعية، ومن أبرز المزايا التي يمكن أن تحسب لهذا الشاعر أنه لم يدخل معركة التنافس الشديد والسجال الحاد المتبادل بين القديم والجديد، بل صرف طاقته لكتابة الشعر، متبنياً التحولات الجذرية التي بلغتها القصيدة في عالم اليوم، والرغبة في مجاوزة الهوة الزمنية التي تفصل بين الإبداع الذي كان يتجسد نابضاً في مركز الوطن العربي وذلك الذي يبدو شاحباً في أطرافه، لاسيما الأطراف الشرقية منه خاصة، تدفعه موهبته واخلاصه إلى الانحياز للكتابة الحديثة، الكتابة بأشكالها المختلفة بوصفها قضية العصر لا موضوعاً للتصادم مع المألوف والسائد. واللافت أن صوت سيف الرحبي قد انطلق من منطقة كانت أبعد ما تكون عن الحداثة والتحديث، فكان مفاجأة في انطلاق تجربة شعرية أضاءت الطريق لكل ما جاء بعده من إبداع شعري يسير في اتجاه مخالف لما عرفته المنطقة من أساليب شعرية موروثة. لقد تخلى سيف منذ بداياته الأولى عن الموسيقي المتحصلة من الوزن والقافية، وأثبت من خلال نصوصه المتمردة مقدرة اللغة على الاحتفاظ بما يعد جوهراً في المكونات الأساسية لإيقاع القصيدة. ومن هنا تأتي العذوبة التي تسري في ثنايا نصوصه المفعمة بموسيقى اللغة في صفائها وامتلائها بحالات خاصة من تفاعلية تتجاوز حالة الإحاطة بتفاصيل الموضوع ومفرداته الدقيقة إلى الشكل في بنيته الجديدة وإلى اللغة في انزياحاتها المغايرة: «في الليل... في الليل غالباً/ أقتفي أثر البُداة/ بكلابهم النابحة على الحافة/ ومواقدهم المرشوشة بالريبة/ في جوف هذا الليل الموغل/ في القِدَم/ أقتفي أثرهم/ لا أتبين الضوء إلاَّ على رؤوس أصابعي/ هناك في الجروف البعيدة» (رجل من الربع الخالي: ص13). إن الحداثة في سعيها الحثيث إلى خلخلة الشكل وتمردها على ثبات الأنواع الأدبية، لم تغيِّر من جوهرها أو هويتها الفنية، فقد ظل الشعر شعراً، والقصة قصةً، والخطاب النثري خطاباً نثرياً، والأهم من ذلك كله أن الشعر في حداثته وفي تمرده على القالب الموروث ونمطية الكتابة الموزونة، ظل محتفظاً بخصوصيته وبروح الشعر، مسكوناً بجماليات الصورة وسحر الأسطورة، مع رغبة جامحة في أن تتاح له الفرصة ليتشكل في فضاء جديد وبمنظور جديد أيضاً تعبر عنه نصوص سيف الرحبي في مراحله الشعرية المختلفة.