هولندا مهددة بأن تكون الدولة الثانية بعد بريطانيا المصابة بعدوى(لعنة) الشعبوية الترامبية، ولهذا فإن أنظار العالم، لا الأوروبيين وحدهم، تتركز الآن على مسارات العملية الانتخابية التي ستجرى في 15 آذار(مارس) الجاري، كون نتائجها برأي المراقبين من شأنها أن تعيد رسم المشهد السياسي الأوروبي وتضع مصير الاتحاد الأوروبي على المحك، لاسيما أن استطلاعات الرأي تعطي حزب «الحرية» اليميني المتطرف بزعامة النائب الشعبوي غيلد فيلدرز تقدماً على حزب «الشعب الديموقراطي الليبرالي» الذي يتزعمه رئيس الوزراء مارك روتي، بالرغم من سيادة اقتناع بأن نسبة فوزه لن توفر له الغالبية اللازمة لتشكيل الحكومة وحده، فضلاً عن أن خصمه ومنافسه الليبرالي تمكن خلال الأسابيع القليلة المنصرمة من تقليص الفارق بينهما وفق استطلاع أجراه مركز «بايلينغفايزر» وأظهر انهما متقاربان في نسب التصويت، إذ حصل الأول على ما بين 24 و28 مقعداً، مقابل ما بين 23 و27 مقعداً للحزب الثاني، من إجمالي مقاعد مجلس النواب ال150. قبل أن يقلب ترامب طاولة السياسة الأميركية رأساً على عقب، كان السياسي اليميني المتطرف فيلدرز وضع حجر الأساس للشعبوية في التربة السياسية لهولندا. يتشابه ترامب وفيلدرز في كثير من الصفات والنزعات الفجة، فهما يتشاطران غريزة الهيمنة على نشرات الأخبار، وفي كراهيتهما كل من هو مختلف في اللون والعرق والديانة، وبرفضهما المراتبية الحزبية المعقدة، وبحضورهما القوي في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن بين الأميركي والهولندي علامات اختلاف فارقة، إذ إن انعدام التركيز وسيادة العشوائية في السلوك والممارسة السياسية لدى ترامب، يقابلهما رسوخ سياسي وحزم استثنائي لدى فيلدرز لتحقيق هدفه الأساسي المتجلي في إنهاء وجود الإسلام في هولندا، وطرد المسلمين منها وإعادتها الى أهلها الأصليين وفق شعاره: هولندا للهولنديين. استهل فيلدرز النائب في البرلمان منذ 20 سنة حملته الانتخابية بالتهجم على الجالية المغربية ووصفها ب « الحثالة» التي «تجعل طرقاتنا أخطر، وهو ما يجب أن يتغير» وتعهد في مقابلة تلفزيونية في حال فاز بالانتخابات «العمل بقوة لفرض حظر واسع على الإسلام في البلاد» لأنه برأيه «أيديولوجية أخطر من النازية»، وكرر دعوته لحظر القرآن وإغلاق المساجد في جميع أنحاء البلاد». كما وكرر وعده بالسير على خطى البريطانيين بإخراج بلاده من الاتحاد الأوروبي، وإعادة فرض الرقابة على حدودها داخل فضاء منطقة شنغن متجاهلاً واقعاً ناشئاً بأن هذا الشعار فقد جاذبيته ولم يعد براقاً وفق استطلاع أخير للرأي كشف عن تراجع الدعم لخروج هولندا من الأوروبي بنسبة قدرها 8 في المائة، بحيث أصبح الآن 25 في المائة فقط، وعزا محللون هذا التبدل الى اقتناع بأن الناس أدركوا أن هذه العملية سلبية في آثارها على بلدهم ومستقبلهم، ومعقدة للغاية وباهظة في تكاليفها، وليست كما تصوروها من قبل». الأم المهاجرة والأخ الغاضب فيلدرز هو الأصغر من بين أربعة أبناء في عائلته. ولد العام 1963 لعائلة كاثوليكية، ولكنه ليس متديناً. لديه شقيقتان. وأخ أكبر اسمه بول وقف علانية في وسائل الإعلام ضد أفكاره وطروحاته وقال»: لن أصوت له، لأنني أعتقد أنه يلعب لعبة خطرة». وقال بول (62 عاماً) إن «أمي البالغة من العمر 80 عاماً هي الأخرى لن تدعمه ولن تصوت له في الانتخابات»، وأضاف: «المسلمون ضحية طموح أخي الجامح للوصول الى السلطة». لا يتحدث فيلدرز أبداً عن أصول والدته المولودة في إندونيسيا، وقدمت الى هولندا عندما كانت طفلة صغيرة بعد قرار عائلتها مغادرة هذه الدولة الآسيوية والعودة الى أوروبا. ويتضح من دراسة أعدتها (De Groeen Amsterdammer) استناداً الى وثائق من الأرشيف «أن جد فيلدرز يوهان اوردينغ عمل في إندونيسيا، وتزوج هناك من امرأة تنتمي الى عائلة يهودية ذات أصول هندية تدعى يوهانا ماير». وخضع فيلدرز لمحاكمات قضائية بسبب توجهاته العنصرية، ودين عام 2010 لوصفه الإسلام بأنه دين (فاشي) ومطالبته بحظر القرآن. وحوكم بتهمة ارتكاب جريمتي الكراهية والتمييز في العام 2007. يرى المحلل موريس دي هوند «أن فوز ترامب أعطى دفعاً لحزب الحرية»، إلا أن هذا الرأي يتعارض مع نتائج استطلاع للرأي بينت «أن 25 في المائة من ناخبي الحزب يرفضون سياسات ترامب وقرارته». ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة لايدن غيرتن فالينغ في تصريح لوكالة «فرانس برس» ان «عدد الراغبين في التصويت لفيلدرز في تزايد، لأن الناخبين لا يلمسون تغييرات كافية، ويمقتون السياسيين التقليديين». ويخالف المحلل السياسي في الجامعة الحرة في امستردام اندريه كراول هذا الرأي ويقول: «لا أحد في لاهاي حيث مقر الحكومة الهولندية يريد أن يتحالف أو يعمل معه حتى وإن حصل على نسبة عالية من الأصوات» وهدد فيلدرز بأن استبعاده عن الحكم سيشعل شرارة ثورة عارمة في البلاد». ورجح أستاذ العلوم السياسية في جامعة فلورنسا بإيطاليا ماركو تاركي «أن تتسبب العلاقة الوثيقة بين قادة الأحزاب الشعبوية في أوروبا مع ترامب في انعكاسات سلبية عليها، وأن تقلل من فرص حصولها على نسب عالية من أصوات الناخبين». يتضح ذلك في شكل واضح في هولندا مع تناقص تأييد حزب»الحرية» وفق بيانات مؤشر الاقتراع التي أشارت الى خسارته 3-4 مقاعد في الشهر الماضي، ما يعني تراجع نسبة فوزه الى 16 في المائة، ولا يستبعد المحللون إمكان حصول تبدلات في المزاج الشعبي العام مع إعلان نصف الناخبين عن عدم حسمهم خياراتهم الانتخابية. وأظهر استطلاع للرأي أجراه معهد البحوث الاجتماعية(I&O) أن «77 في المائة من الناخبين لم يقرروا لمن سيعطون أصواتهم قبل ثلاثة أسابيع من الاقتراع». ويتضح من استطلاع آخر شاركت في إعداده جامعة امستردام وصحيفة (De Volkskrant) أن «أكثر من 5 في المائة من الناخبين الذين كانوا في السابق لا يصوتون للحزب الليبرالي سمينحونه أصواتهم لكي يعطلوا فوز حزب (الحرية) في الانتخابات». أحزاب تقليدية – تراجعات دراماتيكية تميزت السياسة الهولندية خلال السنوات الأخيرة بانحسار التأييد للأحزاب الثلاثة الرئيسية من يمين الوسط واليسار، فلقد تراجعت شعبيتها في شكل دراماتيكي وتقلصت نسب فوزها من أكثر من 80 في المائة في الثمانينات الى 40 في المائة هذا العام، في وقت ينبثق ويتشكل الكثير من الأحزاب الصغيرة في إطار حركة تمرد تعبر عن مشاعر غضب عارم تتبلور في المجتمع وفي شكل خاص بين الشباب ضد النخب الحاكمة. فالحزب الليبرالي (VVD) وشريكه في الائتلاف الحاكم حزب العمل من يسار الوسط (PvdA) في طريقهما لخسارة 30 في المائة و70 في المائة من عدد نوابهما في البرلمان، فيما تتزايد احتمالات حصول الأحزاب الصغيرة مثل الديموقراطيين المسيحيين(CDA) والليبرالي التقدمي (D66) والحزب الاشتراكي الراديكالي(SP) وحزب الخضر الذي يرتفع منسوب أنصاره وداعميه على نسب جيدة، ويحتمل بروز حزبين صغيرين آخرين ونجاحهما في إيصال ممثليهما الى البرلمان وهما: حزب الحيوانات وحزب المتقاعدين، إضافة الى أحزاب ناشئة أخرى من بينها منتدى الديموقراطية المناهض للاتحاد الأوروبي وحزب «فكر» الذي يخاطب المهاجرين المسلمين. يسود إجماع بين المراقبين على أن تفتيت الأصوات وتوزعها على 28 حزباً ومنظمة سياسية سيجعلان من حزب «الحرية» أكبر الأحزاب في التشكيلة النيابية هذه المرة وليس تحقيقه زيادة كبيرة في أصوات ناخبيه وداعميه، بخاصة أنه ليس حزباً طبيعياً فزعيمه هو العضو الوحيد فيه، وبرنامجه الانتخابي يتكون من صفحة واحدة ومحتواه الوحيد مكافحة الإسلام وإغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، وحظر نشر أو بيع القرآن ومنع دخول المهاجرين المسلمين الى البلاد. وهذه بضاعة رائجة الآن في السوق السياسية في سياق انتشار مشاعر معاداة الإسلام وكراهية اللاجئين والمهاجرين من أصول عربية وإسلامية وتحولها الى ظاهرة في هولندا وأوروبا ككل. جالية وجماعات تكفيرية توجد في هولندا أكبر جالية إسلامية بالنسبة لعدد سكانها، فهي تضم ثلاثة أرباع المليون من مجموع 16 مليوناً، أغلبهم من أصول مغربية وتركية. وشيد أول مسجد في امستردام العام 1975، ويوجد الآن 450 مسجداً في عموم البلاد حيث تتوزع الى مساجد خاصة بالمغارية وأخرى للباكستانيين وثالثة للأتراك. وظهرت في مطلع ثمانينات القرن الماضي ونشأت شبكات ومنظمات سلفية بعد هجرة النشطاء الإسلاميين من الشرق الأوسط. وتعد جماعة «هوفتاد غروب» أولى هذه الجماعات الجهادية في هولندا، وهي شبكة من المتطرفين الشباب أدارها المغربي محمد بويري الذي اغتال المخرج السينمائي ثيو فان غوخ العام 2004. ويتضح من تقارير جهاز الأمن «أن شبكات سلفية أخرى انطلقت من مسجد «التوحيد» في امستردام ومسجد «السنة» في لاهاي، ومسجد «الفرقان» في ايندهوفن. كما و«برزت جماعات سلفية متطرفة أخرى من بينها جماعة(شريعة من أجل هولندا) وحركة (سترات دعوة) مستفيدة من أجواء حرية التعبير للترويج لأطروحاتها وأفكارها». وكانت وسائل الإعلام الهولندية تحدثت عن منظمة «خلف القضبان» التي قامت في 2011 بتظاهرة ضد قانون حظر النقاب الذي فرضته السلطات الهولندية. بدأت السلطات الأمنية بمراقبة هذه الجماعات في أواخر التسعينات بعد توسيعها نشاطاتها وانتهاكها للقوانين السائدة في البلاد، وقامت أحزاب سياسية هولندية بمحاولات لتصنيف هذه الجماعات رسميا ب«الخطرة» والتي «تشكل تهديداً للنظام الديموقراطي لتبينها العنف ولغة الكراهية ضد الأديان الأخرى». ويشير تقرير صادر عن الاستخبارات الهولندية الى «أن العديد من أعضاء هذه الجماعات، وفي مقدمها «الشريعة من أجل هولندا» و «خلف القضبان» سافروا للقتال في سورية بدعوى الجهاد». وفي محاضرة له امام معهد واشنطن قال مدير وكالة الأمن والاستخبارات العامة الهولندية روب بيرثولي»: تقوم منذ أوائل الألفية الثانية الوكالة بدراسة الأشكال المتعددة للحركة الجهادية في هولندا، ولاسيما الجهاد القائم على العنف» وتوصلت الى استنتاجات من بينها «أن حركة الجهاد الناشئ في هولندا تميزت في بداية نشوئها بكونها هادئة واقتصارها على شبكات صغيرة ومعزولة تروّج نظرياً لأفكار جهادية من دون أن تحقق أهدافاً تُذكر من الناحية العملية» وقال: «اقتصر دور الأجهزة الأمنية نسبياً على البحث عن الأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا مقاتلين وإقناعهم بالعدول عن مخططهم، وهو أسلوب غالباً ما كان يكلل بالنجاح». إلا أن هذا الوضع وفقاً للمسؤول الأمني الأول «تغير جذرياً في بداية عام 2013. ففي غضون أشهر قليلة، غادر مئات الجهاديين إلى سورية في موجة فاجأت الجميع». وتشير تقديرات الوكالة إلى «أن عدد المشاركين الهولنديين في الصراع السوري يبلغ بضع مئات، فيما عدد المتعاطفين يصل الى عدة آلاف». وأعلن بيرثولي «أن تسعة عشر مقاتلاً لقوا مصرعهم في سورية من بينهم ثلاثة قتلوا في هجمات انتحارية»، فيما «عاد ثلاثون آخرون». ولاحظ «ان عدد النساء والفتيات حتى ممن لم تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة، اللواتي يرغبن في السفر إلى سورية ارتفع في شكل يثير القلق». نشر رئيس الوزراء الهولندي وزعيم الحزب الليبرالي مارك روت إعلاناً احتل صفحة كاملة في إحدى الصحف اليومية أثار دهشة الأوساط الليبرالية إذ هدد فيه المهاجرين «إما التطبع بطباعنا وإما الرحيل»، في ما يُعد تحولاً حاداً إلى المواقف اليمينية، في الوقت الذي تستعد فيه هولندا لصراع مرير على الهوية الوطنية تزامناً مع الانتخابات العامة.