منذ بلغ النبي محمد (ص) الكتاب المبين، تمسك المسلمون بقداسة القرآن، وأنه لا تمكن ترجمته ولا التعبير عنه بأسلوب نثري. فالأستاذ الإيراني محمد تقي شريعتي يعتقد بأن السبب في التحريم هو انتقاء الألفاظ الجميلة وعدم إمكان تبديل أي لفظ بمرادفة في المعنى أو بما يناسبه من دون الإضرار بجمال التعبير أو بخصوصية معناه كما يشير شريعتي إلى توافق الألفاظ وتكوين الجمل والتعبيرات الخاصة بالقرآن والأسلوب والتشكيل اللغوي التي يستحيل تبديلها والتي تبرهن أن القرآن كلام الله. إن ما قرره «البعض» بالنسبة إلى الشعر ينطبق – مع الفرق بطبيعة الحال – على القرآن أيضاً «لا يمكن ترجمته»، ولكن من الممكن «القيام بنقل خلاق للمعاني». وفي آرائه الموسعة إزاء إمكان ترجمة القرآن كتب الرازي: صحيح أن التوراة والإنجيل يتفقان مع القرآن في كثير مما يحتويه مثلاً في تمجيد الله والأخبار عن الدار الآخرة، ولكن رغم ذلك لا يجوز في الصلاة التقيد بتلاوة المواضيع المتشابهة نفسها في المضمون في الكتب المقدسة الأخرى... وفي ضوء ذلك، يرفض الرازي حجة من يجيزون لغير العرب تلاوة القرآن في الصلاة بالفارسية لفهم معانيه. ويرى أنه لا مجال للمساواة بين من يدرك القرآن حسب المعاني فقط ويتلوها في الصلاة وبين من يتلو تلك التعبيرات القرآني . إن الرازي محق في ذلك فعندما يحكي القرآن في سورة الأعراف الآية 44 قوله تعالى عن أهل الجنة «قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً»، فإنه بذلك يبلغ بطريقة صحيحة نحوياً وإعرابياً بأمر ما وعاه سامعوه قبل ذلك وقبل المؤمنون صحته ألا وهو أن وعد الله سيتحقق. إن التبليغ حدث من خلال ألفاظ مختارة بدقة... ولإعطاء بعض الأخطاء في الترجمة القرآنية، بخاصة ترجمة «باريت» فترجمة «يوم يكشف عن ساق» [سورة القلم آية 42] تعني عند باريت (أي يوم يكون الموقف حرجاً) وترجمة إحدى معجزات الخلق في الآية 66 من سورة النحل «من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين» تعني عنده لبناً خالصاً وشراباً مستساغاً، وترجمة «ولم يتخذ ولداً» في الآية الثانية من سورة الفرقان «الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً»، تعني عند باريت لم يكتسب ولداً واعتباره قول الله تعالى في الآية الثالثة من سورة الملك «ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت» سؤالاً من الله للنبي في شأن الخليقة، أي هل يمكنك إثبات أي عيب، فإن كل ذلك يعتبر تحريفاً للقرآن وتشويهاً له. وفي الحقيقة أن القرآن الكريم نفسه يشير إلى الأهمية الجوهرية للصيغة اللغوية في تبليغ الرسالة الإلهية فيقول: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»، ومن المرجح أنه يندر وجود نص في تاريخ الأديان حرص على الإشارة إلى بدهية أنه صيغ بلغة معينة بيد أن الارتباط القرآني باللغة العربية منصوص علية في القرآن نفسه ويؤكده التاريخ الإسلامي: فليست هناك تربية إسلامية لا يتم تلم الصلاة فيها بالعربية ولا اعتناق للإسلام من دون النطق بالشهادتين بالعربية. إن معرفة اللغة العربية تعد من مقومات العقيدة الإسلامية، وعالم النحو «ابن الفراء» (ت 822) كان يعتبر الاشتغال بقواعد اللغة العربية أرفع قيمة دينياً من دراسة فقه العقيدة الإسلامية. صحيح أنه كانت هناك في الماضي آراء تجعل وجوب دراسة اللغة العربية أمراً نسبياً، إلا أنه لم تتحقق السيادة لمثل هذا الحل المناسب والوارد في حديث للنبي يعني «لغير العرب من أمتي أن يقرأوا القرآن بغير العربية. فالملائكة ترفعه إلى الله بالعربية وحيث كان المسلمون يذهبون كانوا يحملون معهم لغة القرآن وإلى اليوم يندر أن يتطرق الشك جدياً في كون اللغة العربية ولغة الإسلام في العبادة لغة مقدسة مشابهة في ذلك للعبرية في اليهودية المعاصرة وأيضاً مغايرة تماماً للغة يسوع المسيح في النصرانية – والتي لا يعرف عنها الكثير – وكما هو معروف فإن العهد الجديد كتب بلغة Koine اليونانية التي لم تكن اللغة الأم لواضعيها، كما أن النص العبري للعهد القديم لم تستخدمه دوائر لاهوتية واسعة إلا اعتباراً من عصر النهضة. لكن الصورة في الإسلام مغايرة تماماً: فترجمة القرآن إلى العربية الحديثة أو إلى إحدى لهجاتها العامية يعتبر نوعاً من تدنيس الحرمات وفكرة ترجمة القرآن لأغراض الدعوة في البلاد غير العربية خطرت لبعض المسلمين منذ عقود فقط، وكثر الميل إلى تعليم اللغة العربية لمن يدعون إلى الإسلام وكانت ترجمات القرآن من قبل المسلمين نادرة أصلاً حتى القرن العشرين وما كان يوجد منها كان يندر تداوله وكان ينشر غالباً في أوروبا وكانت هذه الترجمات متوافرة فقط في صيغة ترجمة معاني الألفاظ بين سطور النص الأصلي، إضافة إلى ما كان يثير الخلاف دائماً حول شرعيتها على العكس من موقف أحبار اليهود الذين أقروا ترجمة التوراة من العبرية إلى الآرامية. واعتبرت الترجمة عموماً كمساعدة ضرورية وموقتة للقراءة في المنازل ولأغراض التربية أو للتفسير... إن أول ترجمة فارسية كاملة للقرآن تنتمي إلى القرن ال18، وأنجزت في نيودلهي بواسطة «شاه ولي الله» وفي القاهرة أعرب العلماء في القرن العشرين عن اعتراضهم على ترجمات تركية وإنكليزية للقرآن ومن بينهم «محمد عبده (ت 1905) الذي كان يخشى ألا يستفيد من هذه الترجمات إلا المبشرون المسيحيون. وفي تركيا، واجه مصطفى كمال أتاتورك بمشروعه في ممارسة الإسلام بالتركية معارضة كبيرة ويقال أنه عندما طلب من شاعر تركيا الكبير محمد عاكف ترجمة تركية رسمية للقرآن فضل الحياة في المنفى في مصر ، في الوقت ذاته كان كثر من المبشرين المسيحين يعتبرون عدم إمكان ترجمة القرآن العقبة الكبيرة للإسلام. إن دور القرآن لا يزال دائماً في البلاد العربية مختلفاً عن دوره في بقية بلاد العالم الإسلامي، فبالطبع يرتل القرآن في إيران على رغم الترجمات المتوافرة الكثيرة. وبالطبع لا ينازع أي مسلم إيراني متدين في أن للغة القرآن جمالاً إلهياً ولكن كنص يتذوق ترتيله. يكاد يكون دور القرآن في المجتمع الإيراني مقارنة به في البلاد العربية دوراً متواضعاً فإذا ما أريد إنشاء نص شعري جميل والتلذذ بعذوبة اللغة مع الاستغراق في المشاعر الدينية الصوفية، هنا يكون الإقبال على أعمال الشعراء الفرس كحافظ والرومي، وربما لا يكون من المصادفة أن أحد مؤسسي المذاهب الأربعة الفقهية الذي أجاز مبدئياً آداء الصلاة بلغة غير العربية، كان من أصل فارسي (أبو حنيفة ت 757م) وليس بمستغرب أيضاً أنه كان هناك خوارج إيرانيون لا يعتبرون نطق الشهادتين بالعربية شرطاً. حتى في عصرنا يأتي المفكر الإيراني عبدالكريم سوروش صاحب نظرية أن اللغة العربية عرض من أعراض القرآن، وليست من جوهره! وهذا ما أثاره عام 1995 في ندوة ببرلين، فكان أن تصدى له عرب مشاركون في الندوة ذاتها، منهم الراحلون نصر حامد أبو زيد وعبدالوهاب المسيري ومحمد أركون. وفي الحقيقة، فقد تمّت فعلياً مناقشات مشابهة في بدايات الإسلام – فصلها مراراً أستاذنا ومولانا الدكتور رضوان السيد – فبينما كان العرب يتمسكون ويعلون من شأن عروبة الإسلام وتفوق اللغة العربية على كل اللغات الأخرى، كان الفرس المسلمون يبحثون عن أن الله لم يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات وأن غير العرب (يونانيين وفرساً) في إمكانهم التقدم بلغة أكثر غنى وشعر أكثر جمالاً من العرب. واستمر هذا الجدال الذي كانت له خلفيات سياسية واجتماعية لقرون عدة. وفي الحقيقة، استغل العرب نقطة مهمة في جدالهم ألا وهي أن الله كلم البشرية بالعربية وفي الوقت ذاته لم ينكر الجانب الآخر ذلك مع رفضهم في الوقت ذاته النتيجة التي استخلصها محبو العرب من أن الله اختار اللغة العربية لأنها أجمل وقعاً وأكثر ثراء وروعة وأنها أم جميع اللغات التي علمها الله لأدم وأنها لغة أهل الجنة. إنها اللغة الوحيدة التي لا قصور فيها ويمكن التعبير بها عن كل شيء بأكثر الطرق وضوحاً وجمالاً. ويبدو أن الخطأ في نظرية أصل اللغة هذه التي انتشرت بين علماء المسلمين في شكل واسع، أدى إلى أنه كان على آدم منذ أن علمه الله أن يتكلم السريانية. وبعد الطوفان أتيح لإسماعيل وأولاده التكلم بالعربية لأن الله قبل ندم إبراهيم واستغفاره، ولا يستطيع إجادة العربية حقيقة إلا من كان منهم نبياً لأن الإنسان العادي لا يستطيعاستخدام كل دقائق ومفردات التعبير والقواعد النحوية. إن خاصية إعجاز القرآن لا تكمن حسب هذا المنطق إلا في التطبيق الكامل للغة العربية – الأمر الذي بسببه يرفض أنصار هذه النظرية وجود الفاظ غير عربية في القرآن – وتختلف عربية القرآن عن العربية التي كان يتم التحدث بها في عهد النبي، لهذا ففي التراث الإسلامي تعد لغة القرآن مماثلة للغة الملائكة ولغة الجنة، وأما الكتب المقدسة الأخرى فقد ترجم كل منها للنبي المختص من هذه اللغة العربية الأصلية. وبعد، فقد وجد العرب في هذه اللغة (لغة القرآن) حلم البشرية في اللغة الكاملة. إنها بالنسبة لنا لغة السماء نزلت على الأرض.