دافع بن برنانكي رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي، عن قرار المجلس ضخ 600 بليون دولار من السيولة النقدية الجديدة في السوق من طريق شراء سندات خزينة، بهدف تشجيع الاقتصاد من خلال زيادة الصادرات والطلب المحلي من طريق خفض سعر الدولار والفائدة. ويهدف ذلك أيضاً الى خفض معدل البطالة الذي بلغ نحو عشرة في المئة في الولاياتالمتحدة. غير أن برنانكي لا يجد تأييداً كبيراً لهذه الخطوة التي وصفها وزير المال الألماني فولفغانغ شويبله بأنها مخالفة للتوجه العالمي الرامي إلى خفض الإنفاق العام وتقليص عجز الموازنات الذي وصل إلى حدود خيالية على صعيد الموازنة الأميركية. كما يُخالف تعهد حكومات الدول الصناعية ومنها أميركا، بالعمل على خفض ديون الموازنات العامة خلال قمة العشرين الأخيرة في مونتريال الكندية. ووصف الباحثان في معهد الاقتصاد العالمي في مدينة كيل الألمانية، نيل يانسون ويواخيم شايده، القرار بأنه لعب بالنار على ضوء الأخطار الكثيرة التي ينطوي عليها، منها احتمال خروج معدلات التضخم هي حالياً دون واحد في المئة، عن نطاق السيطرة في المدى المتوسط، ما سيرتب تبعات سلبية عدة أبرزها هروب الاستثمارات الأجنبية التي تعتمد عليها الولاياتالمتحدة بقوة، ويدفع على العكس هدف القرار إلى رفع معدل الفائدة. وعلى ضوء ذلك يمكن القول إن تبعات هذه الأخطار على المدى المتوسط ستطغى على المكاسب المحدودة والموقتة التي سيأتي بها القرار في بعض مجالات التصدير وعلى صعيد أسعار الأسهم التي سيجد فيها المضاربون باباً جديداً لاقتناص الفرصة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن مستوى تعافي الاقتصاد الأميركي من آثار الأزمة المالية العالمية أفضل من مثليه في دول صناعية مثل بريطانيا التي أقدمت أخيراً على اتخاذ أقسى إجراءات تقشفية منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الخطوة الأميركية لا تبدو منطقية من وجهة نظر المحليين وصنّاع القرار، لا سيما في الخارج. فمقارنة مع بريطانيا التي بقي معدل نمو اقتصادها خلال السنة الجارية دون واحد في المئة، بلغ معدل نمو الاقتصاد الأميركي نحو 2 في المئة في الفترة ذاتها. على صعيد آخر، لا يجد المتابع لمسيرة الاقتصاد الأميركي صعوبة في استنتاج حقيقة أن السياسات النقدية الأميركية التي اعتمدت على ضخ مزيد من السيولة في السوق لم تنشّط الاقتصاد الأميركي بقدر ما أفقدته قدرته التنافسية في الأسواق العالمية على مدى السنوات العشرين الماضية. ويظهر ذلك من خلال صناعات أساسية فقدت أسواقها الخارجية كصناعة السيارات والأدوات المنزلية والأجهزة البصرية والآلات الثقيلة. وقد حوّل هذا الوضع مشكلة هذا الاقتصاد إلى مشكلة بنيوية، أكثر منها مشكلة نقص سيولة ومعدلات فائدة منخفضة. ومن الأدلة على ذلك، أن السوق الأميركية تتمتع بسيولة كافية وبمعدلات فائدة منخفضة قبل اتخاذ المجلس قراره. ويذكر أن معدل الفائدة الرئيسة في هذه السوق لا يزال بحدود صفر إلى 0.25 في المئة. وعلى ضوء ما تقدم، لن يتمكن الدولار الضعيف من حفز الصادرات الأميركية في الشكل الذي يتوقع منه، لأن السلع الأميركية عموماً لا تجد إقبالاً من المستهلك الأجنبي قياساً الى البضائع الآسيوية والأوروبية. وإذا كان الدولار الضعيف سيخفض سعر الصادرات، فإنه سيزيد في المقابل سعر الواردات، ما سيخفف أثر الخطوة في زيادة الطلب المحلي إذا أخذنا في الاعتبار معدلات البطالة العالية والديون التي تثقل كاهل المستهلك الأميركي نتيجة الأزمة المالية العالمية. وفي ما يتعلق بتأثير قرار مجلس الاحتياط الفيديرالي في الدول النامية والصاعدة ومن بينها دول عربية عدة، فإن خفض سعر الفائدة في الولاياتالمتحدة سيفقد سندات الخزينة جاذبيتها لدى المستثمرين الأجانب والعرب. كما ستفقد هذه السندات قيمتها الفعلية إذا أخذنا في الاعتبار أيضاً استمرار تراجع سعر الدولار الذي يعد أبرز أهداف قرار المجلس. ما يعني خسائر بمئات الملايين لهؤلاء المستثمرين الذين يستثمرون في هذه السندات نحو 4000 بليون دولار، نصيب الصين منها 1800 بليون، بينما يقدر نصيب الدول العربية وفي مقدمها السعودية، بأكثر من 400 بليون. ومن تبعات تراجع سعر الدولار أيضاً التأثير السلبي في عائدات الدول العربية المقومة بالدولار، وفي مقدمها عائدات النفط والغاز التي تشكل العائدات الرئيسة لغالبية هذه الدول. وعلى ضوء ما تقدم، يبدو تنويع سلة العملات لمصلحة اليورو وعملات أخرى أفضل سبيل لضمان أقل قدر ممكن من الخسائر على صعيد الاحتياطات النقدية. وفي ما يتعلق بالاستثمارات المباشرة، فإن ضخها في الأسواق المحلية والصاعدة يأتي في الوقت الراهن بعوائد تفوق أضعافها في الولاياتالمتحدة وغالبية الدول الصناعية الأخرى. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - برلين