لماذا تلاشى فجأة ضجيج الحرب الصامتة بين شركات المعلوماتيّة الأميركيّة من جهة، والرئيس الأميركي الشعبوي دونالد ترامب من الجهة الأخرى؟ قرعت طبولها قبل وصوله الى الرئاسة بتوقيع كبريات شركات «وادي السيليكون» على عرائض تعلن صراحة أنها تعارض وصول ترامب إلى المكتب البيضوي. ولم تفلح في إخفاتها مبادرة ترامب إلى الاجتماع بمديري الشركات التي صرحت بنفورها من سياسته الحمائيّة، مبيّنة أن العقول المهاجرة إليها من أصقاع العالم تمثّل شريان حياة لها، إضافة إلى أن عملها يستند الى وجود بديهي للعولمة ومعطياتها وشبكاتها وأعمالها العابرة للحدود. ومع أول مرسوم أصدره ترامب ضد المهاجرين، تحرّكت تلك الشركات مع من ناهضوا سياسة العداء للأجانب. ثم...هدأ كل شيء على جبهة «وادي السيليكون». ولم يصدر عن شركات المعلوماتيّة والاتصالات الأميركيّة ما يدل حتى على مجرد محاولة استثمار ما تحقّق ضد ترامب في مسألة المهاجرين. هل أنها هدنة المحارب أم إنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ إذا كنت أميركيّاً في الحزب الديموقراطي وتملأ عقلك نظرية المؤامرة، هل كنت لتتوجس خيفة من وجود «تواطؤ ما» بين شركة «مايكروسوفت» و...فلاديمير بوتين! من أين كانت لتأتيك تلك الفكرة المؤامراتيّة؟ الأرجح أنها كانت لتستقى من سوابق حدثت في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون الذي دأب المرشح الشعبوي دونالد ترامب على استحضار شبحه في معركته ضد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. من ناحية ثانية، لم توفر كلينتون سانحة للإشارة إلى «علاقة ما» بين بوتين وترامب، بل إنها وصفت بألفاظ صريحة تلك العلاقة معتبرة أنّ «ترامب هو دمية بوتين التي يريد إيصالها إلى البيت الأبيض. (حسناً: هناك وصف سياسي آخر لتلك الكلمات، من ضمنها... عقلية المؤامرة). عن حرب ربما ليست منسيّة ما دخل «مايكروسوفت» في ذلك الأمر كله؟ يأتي شبح الرئيس السابق بيل كلينتون ليقدم إلى المغرمين بنظريات المؤامرة رواية حسنة الحبك. ويتمثّل السند الرئيسي والواقعي لتلك الحبكة المؤامراتيّة الطابع، في ذكريات النزاع المرير الذي دار بين الرئيس كلينتون وشركة «مايكروسوفت»، وهو وُصِف آنذاك ب «حرب البيلّين»، إشارة إلى اسم بيل غيتس، المؤسّس الأسطوري لشركة «مايكروسوفت». آنذاك، سعى الرئيس كلينتون إلى تحطيم «مايكروسوفت» حرفيّاً عبر المطالبة بتطبيق «قانون شيرمان» الذي يمنع تشكيل شركات احتكاريّة في أميركا لأنها تمنع المنافسة الرأسماليّة من أن تكون عادلة، وهو طُبّق مرّة وحيدة ضد شركة «ستاندرد أويل» للنفط، وأدّى إلى تفكيكها. وآنذاك أيضاً، من دون المؤامرة وعقليتها، انحازت «مايكروسوفت» علانية إلى المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش. وصبّت أموالاً وافرة في حملته الانتخابيّة ضد المرشح الديموقراطي آل غور الذي كان يوصف بأنه امتداد لعهد بيل كلينتون، وهو أمر استعادته حملة ترامب عبر وصفها هيلاري بأنها امتداد لزوجها، إضافة إلى وصفها أيضاً بكونها امتداداً لعهد الرئيس باراك أوباما! [واضح من «الامتدادين» أنّ عقلية المؤامرة كانت وافرة الحضور في الأوساط المحيطة بترامب]. إذن، هل يذهب عقل المؤامرة إلى القفز فوق قرابة 15 عاماً، ليرى في «مايكروسوفت» شبحاً حاضراً في خلفية صعود ترامب؟ أيكون بوسع ذلك العقل المؤامرتي أن يفسر تصريح «مايكروسوفت» قبل يوم التصويت الرئاسي عن اكتشافها ثغرة سمحت لمجموعة روسيّة باختراق نُظُم إلكترونيّة عالميّاً، بأنه إخلاء للمسؤولية عن تسلّل محتمل لمجموعة إلكترونيّة تديرها روسيا، إلى نظام الاقتراع في أميركا بهدف إيصال ترامب إلى البيت الأبيض؟ «نظام واحد، عالم واحد» قبل ضربات الإرهاب في 9/11، نشر المفكر الأميركي نعوم شومسكي مقالاً ذاع صيته بسرعة، كان عنوانه «عالم واحد، نظام واحد»One World، One System. حمل المقال شكوى من اليد القويّة التي تقبض بها «مايكروسوفت» على عالم الكومبيوتر، خصوصاً عبر نظامها «ويندوز». ولاحظ شومسكي أن نظام «ويندوز» ينتشر على ما يفوق ال 95 في المئة من أجهزة الكومبيوتر عالميّاً، فرأى فيه محاولة تعميم نظام واحد بعينه على العالم بأسره. ولم يكن ذلك بعيداً من تلك العولمة النيوليبراليّة التي كانت في عزّ فورتها آنذاك، بل إنها كانت في مرحلة «العولمة المتوحشة» التي صارت منبوذة من قبل قوى العولمة نفسها بعد قرابة عقد من السنين! في تلك المرحلة الصاخبة، كان بادياً بوضوح أن «مايكروسوفت» تحوز قوّة عاتية تخترق خرائط الكرة الأرضيّة، وهي ما تناوله مفكر أميركي آخر (هو الأميركي- اللبناني رالف نادر) في مقال ذاع صيته عند مطلع القرن الجاري، وحمل عنواناً لا يصعب فهم مغزاه: «أوقفوا مايكروسوفت». حتى لو هجرنا ذلك الضرب من التفكير كله، تبقى بعض الحقائق واضحة، بل تبعث على كثير من القلق، إذ ينتشر نظام التشغيل «ويندوز» على ما يفوق ال 90 في المئة من الكومبيوترات حاضراً. يصح القول إن نظام ال «ماك» مثبّت على أجهزة ال «آي باد»، وأنه يعمل على نسبة محترمة من خوادم الإنترنت، وكذلك أجهزة الكومبيوتر الفائقة («سوبر كومبيوتر»Super Computer). ويصح القول أيضاً إنّ انتشار الأجهزة الذكيّة كالهواتف الذكيّة والألواح الإلكترونيّة خفّف من انتشار أجهزة الكومبيوتر كلها، بما فيها ال «لاب توب». ولكن ذلك لا يغيّر شيئاً في واقع الانتشار المذهل لنظام «ويندوز»، بل يكاد يحتكر أجهزة الكومبيوتر عالميّاً. ويعني ذلك أيضاً أنّك تستخدم على كومبيوتر مكتبك نظاماً يشبه ذلك الذي يعمل به معظم علماء وكالة الفضاء «ناسا». أبعد من ذلك، أظهرت الوثائق التي كشفها خبير المعلوماتية الأميركي المنشق إدوارد سنودن، أنّه حتى في جهاز استخباراتي عالمي ك «وكالة الأمن القومي»، ينتشر نظام «ويندوز» على معظم الحواسيب المستخدمة في تلك الوكالة الاستخباريّة. إبحث عن خيوط خفيّة مع التفكير في الربط بين المعطيات التي كشفها الخبير الأميركي المنشقّ إدوارد سنودن، ومجريات النقاش الأميركي في دور روسي في الفضاء السيبراني ساهم في وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يعود التفكير المؤامراتي ليطلّ برأسه السقيم مجدداً. ألا يقيم ذلك الخبير الذي كان مطّلعاً على معظم أسرار التجسّس الإلكتروني الأميركي، في موسكو عاصمة فلاديمير بوتين؟ ماذا لو أن برقاً ما حمل خاطراً من نوع أن الاستخبارات الروسيّة اغترفت معلومات ضخمة ونوعيّة من سنودن، بمعنى أنّها أكثر حساسيّة من تلك التي نشرها سنودن حتى الآن؟ ألا يعني ذلك أن الاستخبارات الروسيّة باتت تعرف تفاصيل «البيت الإلكتروني الأميركي»، إذا جاز الوصف، بدقة تتيح لها التدخّل بتأثير كبير، بل ربما يفوق المتوقّع؟ (تذكير: بوتين جاء من صفوف جهاز الاستخبارات السوفياتي ال «كيه جي بي» الذائع الشهرة). ألا تتوافق تلك المعطيات مع اللهجة الحربيّة التي وصفت فيها واشنطن محاولات موسكو اختراق أجهزة «الحزب الديموقراطي» الذي يشكّل أحد أركان مؤسّسة الدولة الأميركيّة ونظامها؟ على الأقل في المنشور من وثائق سنودن، هناك وصف واسع للثغرات في النظم الإلكترونيّة الأميركيّة والعالميّة، مع ملاحظة أنّه في أغلب الأحيان، يكون الإثنان واحداً بأثر من تمركز معظم شركات الكومبيوتر الكبرى في أميركا، وكذلك وصف لطريقة تعامل الاستخبارات الأميركيّة معها، وتفاصيل عن الإمكانات التي تملكها، ورسم حدود تلك الإمكانات أيضاً. («الحياة» في 18 كانون الأول/ديسمبر 2016). الأرجح أن الكلمات السابقة أبدت قسوة ما حيال «مايكروسوفت»، خصوصاً أنها كانت المبادِرَة إلى الكشف عن وجود ثغرة أساسيّة في نظام التشغيل «ويندوز» تمكنت مجموعة تعرف باسم «ستروتنيوم» STROTINUM، من استغلالها للنفاذ إلى نظام «ويندوز» لاختراقه. (ما يعني أنّه إذا كان كومبيوترك يعمل ب «ويندوز»، فمعنى ذلك أنّ «ستروتنيوم» تستطيع الوصول إليك في أي لحظة). وفي بيانها عن تلك الثغرة الأساسيّة، أوضحت «مايكروسوفت» أن روسيا ربما كانت وراء تلك المجموعة التي تعرف بأسماء أخرى منها «الدب المُشتَهى». ووعدت «مايكروسوفت» بأنها ستعمم برنامجاً أمنياً صغيراً لسدّ تلك الثغرة، في يوم بداية التصويت للانتخابات الرئاسيّة في الولايات المتحدة! ويزيد في القلق أن «مايكروسوفت» أوردت في بيانها أيضاً أن محرك البحث «غوغل» هو الذي كشف الثغرة قبل أن تتوصّل «مايكروسوفت» إلى معالجتها وسدّها. ما العلاقة بين الثغرة والانتخابات الرئاسية؟