قد لا تكون عملية القرصنة الالكترونية التي استهدفت أجهزة الكومبيوتر في مقار الحزب الديموقراطي الأميركي وسرقة آلاف الوثائق الداخلية المهمة والرسائل المتبادلة بين هيئاته القيادية، بخطورة قرصنة مراسلات وزارة الخارجية الأميركية ونشرها على موقع «ويكيليكس» قبل سنوات قليلة، او ما سربه عميل الاستخبارات الأميركي السابق ريتشارد سنودن من وثائق حول عمليات التجسس والتنصت على رؤساء وقادة عالميين التي قامت بها الاستخبارات الأميركية. لكن الدلالات السياسية والنتائج التي ترتبت على الفضيحة الالكترونية الاميركية الجديدة كانت أشد وقعاً. فإضافة الى إطاحة الهرم القيادي للحزب الديموقراطي، وعملية «التطهير» الداخلي المستمرة قي أطره وهيئاته القيادية، فإن توقيت نشر الايميلات المقرصنة مع انعقاد المؤتمر الوطني للحزب، والاشتباه بدور ما للاستخبارات الروسية في الأمر أعطى عملية القرصنة الالكترونية أبعاداً سياسية أكثر خطورة، خصوصاً مع اتهام الحملة الانتخابية للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمحاولة التدخل في المعركة الانتخابية الأميركية لمصلحة دونالد ترامب مرشح الحزب الديموقراطي. وهذا في أعراف العلاقات بين موسكو وواشنطن تجاوز للخطوط الحمر كما انه يعتبر سابقة تاريخية في سجل الانتخابات الرئاسية الأميركية ومؤشر لمدى التردي الذي اصاب الجسم السياسي الأميركي الذي بات عرضة لتدخلات خارجية. بهذا المعنى، فإن انكشاف القضاء الالكتروني الاميركي امام مجموعات الهاكرز المتعددة الجنسية، التابعة منها لوكالات استخبارات اجنبية وغير التابعة، أسفر عنه انكشاف المجتمع الأميركي أمام مزيد من التأثيرات الخارجية، كما أظهرت ثغرات النظام السياسي الأميركي ونقاط ضعفه مأزق الصراع بين خيارين متناقضين يتنازعانه: الأول يدعو الى انخراط أميركي بقضايا العالم والقبول أكثر بشروط وقوانين العولمة ومتطلباتها السياسية والاقتصادية، اما الثاني فيرفع شعار اميركا اولاً وينزع الى العزلة ويعتبر ان حماية اميركا واستعادة عظمتها المفقودة تستلزمان اقامة الجدران الاسمنتية والعنصرية والاقتصادية والدينية بينها وبين بقية العالم. المفارقة أن دونالد ترامب المرشح الرئاسي الذي يمثل خيار عزلة اميركا، تمنى خلال مقابلة تلفزيونية على وكالة الاستخبارات الروسية المبادرة الى قرصنة آلاف الايميلات والرسائل الرسمية والخاصة التي اختفت في ظروف غامضة عن السرفير الخاص لوزيرة الخارجية السابقة الذي كانت تستخدمه خلال ممارسة مهماتها في الوزارة. صحيح ان ترامب تراجع في وقت لاحق عن هذا الطلب وقال انه كان يسخر من الاتهامات التي وجهت ضده بالتنسيق مع بوتين ضد كلينتون وان طلبه من الروس التجسس على وثائق وزارة الخارجية الأميركية كان من باب المزاح. الا ان فئة واسعة من الأميركيين، ومنهم جمهوريون، استنكروا هذا الاستخفاف بالأمن القومي الأميركي من مرشح لمنصب رئاسة البلاد والقائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية. ايضاً من مفارقات فضيحة «هيلاري ليكس» الالكترونية ان السحر فيها انقلب على الساحر. فالهدف السياسي المباشر لنشر البريد الإلكتروني للحزب الديموقراطي هدف الى شق وحدة الحزب وتحريض انصار السيناتور بيرني ساندرز الذي كشفت الرسائل الإلكترونية المقرصنة ان مؤامرات حزبية حيكت ضده، على التمرد وعدم تأييد ترشيح كلينتون. لكن الشكوك الجدية بتورط الاستخبارات الروسية وزلات لسان ترامب اتاح امام مرشحة الحزب الديموقراطي هامش مناورة اوسع جعلها تنتقل بسرعة من الدفاع الى الهجوم وتوجيه الاتهام الى بوتين في شكل علني بالتدخل في الشؤون الداخلية الأميركية ودعم صديقه في معركة الانتخابات الرئاسية من خلال عمليات التجسس والقرصنة الالكترونية على الحزب الديموقراطي احد الحزبين الاميركيين الكبيرين اللذين يحتكران السياسة والسلطة في الولاياتالمتحدة منذ اعلان الاستقلال عام 1976.