الروائية البحرينية فتحية ناصر، متعددة ومتنوعة في إبداعاتها، يسكنها الشك، وتنحاز للكتابة الإبداعية عما سواها، تكره العبارات التي تشير إلى المرأة، لأنها تشير إلى الضعف وليس إلى القوة، وعلى رغم ثقتها الكبيرة بكل خطواتها، إلا أنها لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل، الراحة تتعبها وتود ألا تستريح أبداً، لها العديد من الروايات والشعر، وشاركت في السينما والمسرح، ودخلت مجال الغناء أخيراً بعد أن درست الموسيقى. «الحياة» التقتها فكان هذا الحوار عن تجربتها وقضايا أخرى: «الحب هو أجمل سوء تقدير بين الرجل والمرأة»، يقول فيكتور هوغو. تطرقت للحب في جل أعمالك الأدبية والسينمائية.. وكنت من الريبة في مكان والشك يترصدك في الأعمال تجاه الآخر. ما الذي يجعلك تنحازين للشك بدل الطمأنينة؟! - لأن التغيير هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وهو الثابت الوحيد. كل ما حولنا يتغير. وما نظنه اليوم ثابتاً ننظر إليه بعد سنوات فنعرف أنه قد تغير ببطء، ومن دون أن نشعر. وهكذا فنحن كذلك نتغير، ويتغير الحب. يتخذ أشكالاً عدة كلما تغيرت الظروف المحيطة به وتغيرت شخصيات الأحبة. هل نستطيع أن نترك الحب في صندوق آمن حرصاً عليه، ولكي لا ينال نصيبه من تلك التغيرات؟! لهذا كان لا بد من الشك. ولأننا نشك في الغد ولا نعرف كيف سيكون، فإننا لا نملك إلا أن نستفيد من شكوكنا، ونعيش كل لحظة إلى أقصاها. «من يشعر برغبة لا تقاوم في الانطلاق لا يمكنه أبداً أن يرضى بالزحف»، تقول هيلين كيلر. فتحية الناصر إلى أين يمتد بصرها في الفضاءات ومتى تود لأجنحتها أن تستريح؟ - أود أن لا أستريح أبداً بصراحة... فالراحة تتعبني. ويؤلمني الوقت الذي يضيع سدى من دون إنجاز وتقدم، حتى ولو صغير. أظن أن الوقت الذي يهدر بلا فائدة يحرق من طاقة الإنسان أكثر مما يحرقه العمل المنتج. معاناة الجيل الجديد في السنوات الأخيرة فتحت خزائن الروايات على جوائز كبيرة ومن دون اشتراطات مسبقة. ومع ذلك صبغت بنكهات وجرعات حسية كبيرة وكأننا في عالم في نيويورك ولسنا من الخليج.. كيف يتغرب النص ويتنفس في مجتمع وشارع غريب جداً عليه؟ - هناك مشكلة كبيرة أظن أن كتّاب الجيل الجديد يعانون منها. فهم أنفسهم مقسمون أولاً بين حياة العرب وحضارة الغرب، غير قادرين على اتخاذ قرار باتجاه هذه أو تلك، ولا حتى قادرين على الوقوف في منتصف الطريق! وثانياً، هم لا يعرفون أساساً ما هو شكل الأدب، ولا يدركون الفرق بينه وبين أشكال الكتابة الأخرى، سواء أكانت كتابة احترافية أخرى (ككتابة السيناريو)، أم كتابة هواية (كالمدونات)! هم مرتبطون بوسائط الإعلام الأخرى ويظهر تأثيرها مبالغاً عليهم، كالتلفزيون والإنترنت والسينما، (بالطبع لأن التعامل معها كنشاط «مشاهدة» أسهل من التعامل مع الأدب «قراءة»). في الوقت نفسه فإنه لا يمكن إنكار أن للأدب قيمته، وسحره، وهيبته. فإذا وجد أحدهم الفرصة لخطف الأنظار وكسب الشهرة (والمال طبعاً) من طريق جائزة أدبية ليست لها اشتراطات معقدة، فما المانع من أن يجرب حظه؟ في النهاية فإن الكاتب الجاد سيستمر، ويتدارك أخطاءه ويصحح مسيرته. وهذا يعني أنه سيقرأ أكثر أولاً، وسيدرس واقع مجتمعه، ويدرك أن لكل مجتمع أسلوب الطرح الذي يناسبه، كما لكل وسيلة إعلام أيضاً أسلوبها الأمثل لنقول من خلالها ما نريد. كيف تجد ناصر وجه الرواية الجديد في البحرين من خلال المنجز.. وهل من أسماء يعوّل عليها في خلق عوالم روائية لافتة، تضاهي النضوج الشعري والمسرحي والسينمائي الذي توّج بجوائز عدة في الجوار؟ - أود أن أقول «نعم». لكنني لا أستطيع أن أتنبأ بالمستقبل. كثير من الأسماء تبدأ لامعة وتنال التشجيع ويُتوَقع لها أن تبهر العالم، ولكنها بعد حين تنطفئ وتموت، على رغم حصولها على الدعم المادي والمعنوي، والشهرة التي تفوق أحياناً حجم وقيمة منجزها الأدبي. ما الذي يحدث ولماذا تختفي تلك الأسماء؟ لست أعرف! لذا فأنا أترك إجابة هذا السؤال للوقت. وأعرف أنه سيجيب عنه خيراً مني. تعدد شكل الظهور لك في المسرح والسينما كما تعدد شكل النص لديك؛ فتحية ناصر أين تجد نفسها حرة وقادرة على البوح والصراخ بقوة؟ - في الكتابة بالتأكيد، وتحديداً الكتابة الروائية. لأنني لست خاضعة فيها لفكر مؤلف آخر، أو لرؤية مخرج ومتطلبات كاميرا، أو إرادة جهة منتجة واشتراطات «سوق»! دراسة الموسيقى هل تجد ناصر نفسها مغامرة.. أخيراً شاركت في غناء قصيدة في أمسية الشاعرة فاطمة محسن؛ وهذا يتطلب تمريناً ووعياً فنياً عالياً وأذناً موسيقية، أين أنت من كل هذا؟ - بشكل عام أنا لست شخصية مغامرة. لكنني كذلك إبداعياً. إلا أن مغامراتي حذرة ومحسوبة بدقة، كما لا أقدم عليها إلا في الوقت المناسب. أي أنني لست «متهورة». فأنا لم أتسرع في طرح نفسي غنائياً، بل درست الموسيقى وعزف البيانو سنوات عدة، كما أخذت دروساً في الصوت أكثر من ثماني سنوات كنت أمرن صوتي يومياً، إلى أن بت قادرة على سماع النوتات بدقة وأدائها بشكل سليم. حين شعرت بأني أملك من الثقة ما يؤهلني لطرح نفسي في هذا المجال، قمت بهذه الخطوة الصغيرة. وكانت أغنية «شهقة الورد» للشاعرة فاطمة محسن ومن ألحان الفنان محمد الحلال، تمهيداً لتقديم نفسي للناس في هذا المجال، بأناة وروية. طبعاً، مع الاستمرار بالتدريب على العزف والتعمق أكثر بدراسة الموسيقى، والقراءة والاطلاع أكثر في هذا المجال. في فلم «الأقدام السوداء»، تذهب المرأة للشك بينما يذهب الرجل للمصافحة البيضاء، وكأننا يجب أن نعيش في قلق الشك وعدم القبول بالآخر هذا القادم من البعيد لينهب كل شيء.. هل كان الفيلم يؤشر لفلسطين ويدق ناقوس الخطر؟ - حين ندق ناقوس الخطر فإننا به نحذّر من خطر ما زال بإمكاننا أن نعمل ما بوسعنا لتلافيه. كما ترى، فقد فات الأوان على ذلك الآن. لكن، ومن حيث المبدأ، فإننا كثيراً ما نمنح الثقة لأشخاص ينهبوننا من دون أن نشعر، وليس بالضرورة أن يكونوا غرباء، فحتى الأقرباء يمكنهم أيضاً أن يسرقوك ويدمروا أحلامك، بحسن نية ربما، كصديق لا يريد لك السير في طريق وعر مليء بالمحبطات. أو بحب، كآباء يخشون عليك آلام الفشل. حتى أزواجنا قد تكون لهم أيضاً أسبابهم (الرومانسية) لتدمير أحلامنا، كرغبتهم في امتلاك كل وقتنا وحياتنا موت الأغاني الجديدة وسقوطها من الذاكرة الإنسانية في هذا الوقت على العكس من أغاني الماضي القريب التي حفرت في الذاكرة عميقاً.. إلامَ تحيلين سقوطها في مستنقع الغياب، أهو غياب المؤلف أم استهتار الملحن، أم كثرة المعروض في السوق؟ - عندما تكدس خزانتك بالملابس فإنك بالتأكيد لن ترى جيداً ما تحت الأكوام وما بينها ووراءها! بالمثل.. أظن أنه ما زال هناك الكثير من الأغاني الجميلة التي تسجل كل عام. ولكنها للأسف مدفونة تحت الركام. أو ربما ليس (للأسف)! فكل ما هو ثمين في الواقع يتعين علينا أن ننقب عنه حتى نشعر بقيمته، وننعم به. دخول عالم التابوهات لديك هل هو ضمن القالب التسويقي أم ولوج لشارع الحياة وتعرية الحقيقة ووضعها في إطار الكشف، الروائية ناصر كيف تنتصر للمرأة في العمل الروائي؟ - في الحقيقة، إن انتشار العبارات التي تشير إلى المرأة أمر يزعجني. (حقوق المرأة، تعليم المرأة، إنجازات المرأة، عمل المرأة، رأي المرأة، عقل وقلب المرأة، قضايا المرأة...) والقائمة تمتد إلى ما لا نهاية! وحين أقول إنها تزعجني فذلك لا يعني أنني ضدها. لكن مثل تلك التركيبات اللغوية تشعرني وكأن المرأة كائن غير طبيعي! صحيح أنها تقال للتباهي بإنجاز امرأة أو لتأكيد أنها نالت حقاً، وأنها تعامل بإنصاف، أو تنال العناية اللازمة التي تستحقها من المجتمع، ولكن لو فكرنا لحظة لوجدنا أننا حين نقول (نجاح المرأة)، فإننا لغوياً نختصر جملة أخرى تقول (غريب كيف أمكن لامرأة أن تنجح!؟). على الأقل، هكذا تترجم الجملة في داخلي أنا شخصياً. لذا فإن تلك العبارات تستفزني، وتجعلني أتساءل بمرارة ما الذي جعل المرأة في حاجة اليوم إلى مثل تلك الاستراتيجيات تلفت بها أنظار العالم وتستجدي تعاطفه؟ إنني أحاول قدر المستطاع أن أتجنب تلك المفردات. ولكني أعرف في الوقت نفسه أن طبيعة العصر تجبرنا على تكرارها إلى أن يكف العالم أذاه عنا.