طبعاً هي شعارات، فلا القرن المنصرم كان أميركياً في شكل حصري، ولا هذا القرن يشهد غياباً للولايات المتحدة يبرر الحديث الشائع عن انتقال مركز الثقل في الاقتصاد والسياسة والنفوذ من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها. فعلى رغم الأزمات الدورية، وآخرها يحظى دوماً بالاهتمام الأكبر، فإن القوة الفاعلة الأولى في العالم تبقى الولاياتالمتحدة، وتعويل مترقبي سقوطها على بروز أقطاب بديلة يهمل علاقة هذه الأقطاب المفترضة بها، وهي دوماً علاقة تفوق في أهميتها كل العلاقات الأخرى لكل من هذه الأقطاب على حدة. هذه هي الحال بالنسبة الى كل من الصين واليابان والهند وروسيا، أي القوى التي يفترض أن تشكل العمود الفقري للقرن الآسيوي، كما هي الحال لأوروبا جمعاء، ولسائر العالم. فالتطور العميق الأثر هو في تبدّل الأولوية الأميركية في تغليب التفاعل عبر المحيط الهادئ مع القوى الآسيوية على التواصل عبر المحيط الأطلسي مع الدول الأوروبية، وهذا التبدل هو نتيجة مباشرة لانتهاء الحرب الباردة، أكثر منه إشارة إلى انقلاب في الموازين الاقتصادية. فهذه الموازين ما زالت تتقدم باتجاه واحد يحبذ آسيا منذ عقود، وإن انتقل موقع الصدارة تراكمياً داخل آسيا إلى الصين بعد أن شغلته اليابان طويلاً. غير أن العالم يشهد بداية قرن آسيوي من نوع آخر، من دون أن يكون الموضوع منافسة الولاياتالمتحدة على المرتبة الأولى في الاقتصاد والقدرة الحربية. وهذا القرن يتجلّى بظاهرتين، الأولى هي «حرب باردة» آسيوية داخلية تسعى من خلالها الدول المحاذية للصين إلى إيجاد الصيغة الكفيلة بمنع استفرادها بموقع القوة العظمى الوحيدة في القارة، فيما تنشط الصين إلى تأصيل نطاقها الحيوي، بل في بعض الأحيان إلى توسيعه. والتحالفات الناشئة جراء هذا الوضع ليست جديدة، غير أنها تكتسب زخماً متجدداً. فالتوافق التاريخي الموضعي بين الصين وباكستان في شأن خلافاتهما الحدودية مع الهند يصبح ذا أهمية متزايدة بالنسبة لباكستان التي تشهد شبه تطويق لها من الهند، بعد تعاظم دور هذه الأخيرة في أفغانستان وارتفاع أهميتها لدى الولاياتالمتحدة، التي كان تعويل باكستان عليها لموازنة هذه الجارة الأقوى. في المقابل، وعلى رغم الوهن الذي يعتري التماسك الداخلي الهندي في شرق البلاد، فإن نيودلهي ما زالت قادرة على مد اليد إلى ميانمار (بورما)، والتي تندرج في إطار العمق التاريخي للنفوذ الصيني، وتجد في النظام العسكري الاستبدادي في ميانمار رغبة مقابلة للتواصل، في محاولة لتجنب العزلة التي يريدها معظم العالم لهذا النظام. واليابان بدوره، بعد أن حققت الصين هذا العام إنجاز التفوق في المرتبة الاقتصادية عليه، يلوّح بدعم للهند في مسعاها إلى الاستحصال على معقد دائم في مجلس الأمن ويعد بتوسيع العلاقة الاقتصادية معها (وهي علاقة تكاد أن تكون اليوم رمزية، على الأقل بالنسبة للجانب الياباني). وإذا كانت ثمة «حرب آسيوية باردة»، فإنه لا يمكن إهمال دور قوتين مخضرمتين في حضورهما في القارة، الأولى هي روسيا، والتي يبقى إخراجها من آسيا الوسطى مع سقوط الاتحاد السوفياتي غير مكتمل، إذ تسعى إلى العودة إلى مواضع نفوذها السابقة، وتنشط بدورها في مباراة تشكيل التوازنات المتنافسة في القارة. أما الثانية فهي الولاياتالمتحدة نفسها، إذ هي القوة الآسيوية الأولى، بمقياس حضورها وقواعدها العسكرية في أرجاء القارة، من اليابان وكوريا الجنوبية إلى العراق مروراً بأفغانستان، وجملة من المراكز المرشحة لديمومة أطول في آسيا الوسطى. وإذا كان ثمة من يتمنى تخلياً أميركياً عن ممارسة دور الطرف الأقوى في آسيا بعد فوز باراك أوباما برئاستها، انطلاقاً من فرضية رغبته بالسير في منهج تعاوني، فإن قراءة مواقف حكومته تكشف عن استمرارية في السياسة الآسيوية للولايات المتحدة، وعن نشاط أميركي مماثل لسائر القوى الآسيوية في إقامات التوازنات في المواضيع المختلفة. فواشنطن تقف إلى جانب اليابان في خلافه مع الصين حول الجزر المتنازع عليها، وإلى جانب الهند في رغبتها الفوز بمقعد دائم في مجلس الأمن، وهي طرف كسائر الأطراف في الحرب الآسيوية الباردة. لكن الظاهرة الأولى التي تشكلها هذه «الحرب الباردة» قد تكون في نهاية المطاف أقل أهمية من الظاهرة الأخرى في هذا القرن الآسيوي، وهي الانتشار الآسيوي خارج حدود القارة. فبعد أن كان الانتشار الاقتصادي كما العسكري بل السكاني، يكاد أن يقتصر في القرون الماضية على الأوروبيين من القارة الأم ومن المهاجر، مع بعض انتشار استلحاقي للآخرين في أعقابه وعلى أساسه، فإن عوامل عدة قد التقت لتجعل هذا القرن يستهل باندفاع انتشاري آسيوي إلى خارج القارة، باتجاهات عدة أهمها أفريقيا. وبعد ستة أعوام على رعاية بكين لمؤتمر «الصين - أفريقيا»، والذي جاء برؤساء دول أفريقية عدة إلى العاصمة الصينية بحثاً عن فرص تعاون واستثمار، تبدو الرؤية الصينية لحضور متعاظم للصين في القارة الأفريقية في طور التحقيق. ولا يقتصر المسعى الصيني في معظم الحالات على البحث عن مصادر المواد الأولية والأسواق بل يشهد توظيفات مالية وانخراطاً في بناء البنية التحتية. وفي مقابل هذا الزخم الصيني، يشكل المواطنون والمقيمون في الدول الأفريقية المختلفة من أصل هندي قناة أخرى لجلب الاهتمام بالاقتصادات المحلية، فيما تنشط مؤسسات وشركات من دول آسيوية عدة، بما في ذلك ماليزيا وتركيا، في تحقيق حضور لها. ولا شك في أن العبء الأمني الذي تتحمله الولاياتالمتحدة منذ قرابة العقد، وما يستتبعه من تعويق للاستثمارات الوافدة والخارجة، قد ساهم عرضياً في تحفيز هذا الانتشار، أي أن هذا الانتشار لا يعكس بالضرورة حقيقة التوازنات في القوة الاقتصادية. ولكن، لا هذا التنبيه ولا حتى غياب البعد الثقافي للانتشار الآسيوي ينفي أنه يبني على الأرض حقائق جديدة ذات طابع تراكمي. وإذا كان لا سبيل اليوم إلى تبين كامل أبعاد هذه الحقائق، فإن الكلام عن قرن آسيوي، من دون أن يعني ذلك أفول القرن الأميركي، ليس مجرد مبالغة كلامية.