صورتان تعكسان الفارق بين واقع الانزلاق نحو الانتحار وخيار البحث عن الازدهار تحت مظلة الاستقرار. التجربتان بعيدتان اصلا لكنهما تعنيان كل احياء القرية الكونية نظرا لانعكاساتهما على الامن والاقتصاد خارج مسرحهما المباشر. الصورة الاولى باكستانية. الجيش الباكستاني يخوض قتال شوارع في مينغورا عاصمة اقليم وادي سوات. لم يكن باستطاعة الجيش التعايش مع سيطرة «طالبان» الباكستانية على معقل غير بعيد عن العاصمة. الضغوط الدولية كانت صريحة. بدت الحكومة الباكستانية على شفا الانهيار. تصاعد القلق من احتمال وقوع ترسانتها النووية في أيد غير آمنة. بدت البلاد ايضا على شفير الافلاس. انهيار باكستان اكبر من قدرة منطقتها الحساسة على الاحتمال. واكبر من قدرة اميركا المنخرطة في حرب مفتوحة على الاراضي الافغانية. مشهد البارحة كان معبّرا. الرئيس محمود احمدي نجاد يستضيف نظيريه الباكستاني والافغاني ويبحث معهما شجون الامن والارهاب وملفات اخرى. الصورة الثانية هندية. اكبر ممارسة ديموقراطية في العالم. عدد الذين يحق لهم الاقتراع يزيد على 700 مليون. عدد مراكز الاقتراع 828 ألفا. السهر على عملية الاقتراع استلزم تحريك نحو ستة ملايين شخص بين شرطي وجندي ومراقب مدني. كل عناصر الاضطراب حاضرة. عدد السكان يزيد على 1.1 مليار شخص. تتألف البلاد من 28 ولاية. يتوزع السكان على ثمانية اديان. عدد اللغات الرسمية يصل الى 22. وعلى رغم كل ما تقدم جاءت نتيجة الانتخابات الاشتراعية قاطعة: اختار الناخبون الاستمرار في البحث عن الازدهار تحت مظلة الاستقرار. جددوا تفويضهم لحزب صونيا غاندي فجددت ثقتها برئيس الوزراء مانموهان سينغ الذي يدير البلاد منذ اربعة اعوام. لا يملك مانموهان سينغ تاريخا «مجيدا» بالمعنى المتعارف عليه في العالم الثالث. لم ينخرط في الجيش ولم يلمع اسمه في الحروب مع باكستان او الصين. ليس خطيبا مفوّها ولا رجل علاقات عامة. لا يعبر عن عصب طائفته وهو من السيخ. انه رجل عادي. درس الاقتصاد في اكسفورد وكيمبريدج. وكان يسأل نفسه دائما عما تحتاج إليه بلاده للحاق بالعصر والخروج من دائرة الفقر والتخلف. واكتشف ان الجواب هو تحديث الاقتصاد واعادة اطلاق آمال الناس بمستقبل افضل. في بداية التسعينات كانت الهند متجهة نحو الافلاس. اسندت الى الرجل حقيبة المال فانطلق في ورشة عمل لا تهدأ. مكافحة البيروقراطية وتبسيط نظام الضرائب وتقليص التضخم وتوفير شروط انعاش الاقتصاد. تحرك الاقتصاد في هذه الدولة التي تعج بالفقراء وصار معدل النمو السنوي نحو 7 في المئة. وقبل اربع سنوات تولى رئاسة الوزراء فواصل فتح الابواب امام الاستثمار وإعداد الاقتصاد لموقع تنافسي في عصر العولمة. ترافق ذلك مع جهد لرفع مستوى التعليم ومساعدة سكان الارياف على تحسين ظروف حياتهم. ولاحظ البنك الدولي ان سياسات سينغ ادت الى اخراج 300 مليون هندي من حالة الفقر الشديد التي كانوا يتخبطون فيها. انهمكت الهند بمحاربة الفقر وتحديث الاقتصاد واللحاق بالثورة التكنولوجية. وتلوت باكستان على دوي التجاذب بين العسكريين والمدنيين وفساد السياسيين والاحلام النووية. استثمرت الاولى ثروة الاستقرار التي انشغلت باكستان عنها بالسعي الى ادوار اقليمية عبر البوابة الافغانية. وكانت النتيجة بلد يجدد للاستقرار وحلم الازدهار وبلد يتقدم نحو الانهيار والانتحار ينتج المتشددين ثم يحاول ان يكافحهم بعد ان يتعب من إبرام الصفقات معهم. خاض سينغ معركته بأسلحة الكفاءة والنزاهة والمثابرة والامل. برنامجه سمح للهند بالجلوس عن استحقاق في نادي العمالقة. اتابع الانتخابات اللبنانية عبر الشاشات. لا يمكن إنكار وجود شخصيات مقنعة وهي لحسن الحظ من اتجاهات مختلفة. باستثناء هؤلاء تبدو الحوارات اقرب الى حفلات ملاكمة تمتاز بالضرب تحت الحزام. ثمة غياب واضح للغة التي تخاطب العقل وتدعم حججها بالأرقام. قاموس الرداءة والسوقية سجل انتعاشا ظاهرا ومعيبا. فاسدون يحاضرون في العفة ودمى تحاضر في حرية القرار. مرشحون يريدون خطف المقاعد بالكسر والخلع. وزعماء يبدلون الجمهوريات كما يخلعون جواربهم. أعوذ بالله. لا يمكن بناء دولة بهذه الحجارة. نسبة الحكماء منخفضة. نسبة الثقلاء قياسية. اخشى ان تؤكد الانتخابات ان لبنان اقرب الى الانهيار الباكستاني منه الى الاستقرار الهندي.