قدر لي أن أقصد الولاياتالمتحدة الأميركية في منتصف القرن الماضي لمتابعة اختصاصي الطبي بعد أن بدأته في باريس لمدة عامين. وكان السفر بالباخرة ويمتد من ستة أيام الى ثمانية، إذ أن استعمال الطيران كان مكلفاً ومحدوداً. أمضيت في الولاياتالمتحدة قرابة ثلاثة أعوام تعرفت خلالها على مظاهر الحضارة بأشكالها المتعددة. ثم قدر لي أن أتردد عليها مرات عدة في العقود الستة الماضية، مما سمح لي أن أتابع تبدل أشكال هذه الحضارة. كانت الحياة تتصف بهدوء وصمت، لم يعرفهما العالم إلا قليلاً في النصف الأول من القرن الماضي، حيث كان الاتجاه الاجتماعي والسياسي الأميركي الابتعاد عن العالم، إلا أن الحرب العالمية الثانية دفعتها بشدة لأن تنقذ أوروبا من النازية والفاشية، وقد عجل في تدخلها هجوم اليابان المدمر على (بيرل هاربر) على شاطئ المحيط الهادي إذ أدركت أن تدخلها لا بد منه. وصلت الى نيويورك في منتصف القرن الماضي عام 1952 لألمس حضارة تختلف كثيراً عن القارة الأوروبية وحتى عن إنكلترا، وتتصف هذه الحضارة بالرخاء وسهولة العيش وبتنظيم إداري ونمو عمراني وكثافة سكانية شديدة في مدن الطرف الشرقي من الولاياتالمتحدة، تستفيد من (أوتوسترادات) واسعة تتقاطع في بعض الولاياتالشرقية (نيويورك - نيوجرسي - بنسلفانيا) وكان التلفزيون الأبيض والأسود تعمم في أطراف الولاياتالمتحدة حين كان محدوداً جداً في أوروبا ومفقوداً في أفريقيا وآسيا. وكانت شوارع المدن ملأى بالسيارات من صنع أميركي فقط، ويندر جداً أن نرى سيارات من صنع أوروبي، إذ دخلت مصانع السيارات اليابانية والأوروبية والآسيوية، الولاياتالمتحدة، في النصف الثاني من القرن المنصرم. وكنا نتنقل في الليل في المدن وخارجها من دون أن نشعر بأي إزعاج أو خوف، وكانت السلامة ترافق المواطن غالباً مع ندرة حوادث النشل والسرقة والاعتداء. ولكن، لا ننسى الواقع الاجتماعي المرفوض، وهو العنصرية السائدة في ذلك الوقت واستبعاد العرق الأسود من الحياة الاجتماعية الذي كان سائداً، خصوصاً في الولايات الجنوبية، ولم نكن نرى شخصاً أسود على التلفزيون إلا بصفة خادم أو عامل، ولا ننسى ما قرأنا على مقبرة في ولاية نيوجرسي عام 1952 (ممنوع دفن الطليان واليهود والعبيد). أما المطاعم فكان أكثرها بل كلها أميركي يرتبط بالغذاء الأوروبي، والمطاعم الآسيوية والعربية نادرة جداً عكس ما نرى الآن من وفرة عجيبة، ويندر أن لا نجد مطعماً أو مطاعم عدة لكل دولة آسيوية أو عربية أو أوروبية تقدم طعاماً خاصاً بها. الوجه الطبي والعمراني وأهم ما لمست في تلك العقود الغابرة في مجال الطب حيث أتيت لأتمم اختصاصي، ضعف المعرفة الطبية بالمقارنة مع الطاقات الأوروبية، وكنت بدأت الاختصاص في باريس (فرنسا)، ودهشت من الفارق العلمي الكبير بين المعرفة الفرنسية والمعرفة الأميركية، وأدركت أن مواضيع عدة في اختصاصي لا يعرف عنها الطب الأميركي شيئاً في ذلك الوقت، وأتاح لي هذا الفارق الكبير أن أقدم ثماني محاضرات في مراكز طبية في فيلادلفيا وكليفلاند وشيكاغو والمايوكلينك وبوسطن، في مواضيع حديثة لا يعرفون شيئاً عنها... إنما لاحظت أن تنظيم التعليم الطبي في جامعات ومستشفيات المدن الأميركية أقوى بكثير من تنظيم التعليم الطبي في فرنسا وأوروبا، وكانت المراكز الطبية في الولاياتالمتحدة محدودة العدد، تبدو واضحة في القسم الشرقي وتقل كثيراً في القسمين الغربي والجنوبي كتكساس وكاليفورنيا، وكان تنظيم التعليم الطبي في أميركا يحمل طاقات صامتة تم استعمالها والاستفادة منها في العقود التالية أي في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا ننسى وضع الطرقات والجسور في العقود الأولى من القرن المنصرم، إذ كانت الولاياتالشرقية تحظى بطرقات عامة عريضة وجسور عالية رائعة، في ولايات (نيويورك ونيوجرسي وبنسلفانيا وماساتشوستس)، بينما كانت الولايات الأخرى الغربية والجنوبية تعرف القليل من هذه الطرقات الواسعة (أوتوستراد) ولم تر الولاياتالمتحدة هذه الشبكة الهائلة الرائعة من (الأوتوسترادات) إلا في النصف الثاني من القرن الماضي حين تولى الرئاسة أيزنهاور. هذا هو الوضع الحضاري والاجتماعي للولايات المتحدة في العقود الستة الأولى من القرن المنصرم، الى أن تم وضع تخطيط حضاري متطور انطلق من العقد السابع من القرن العشرين وامتد الى العقد التاسع، وخلاله تبدلت الحياة الاجتماعية والطاقات العلمية في الولاياتالمتحدة، ساعد في ذلك تدفق الأموال من أطراف العالم حين سمح الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات بأن تقدم المصارف الأميركية فوائد عالية جداً وصلت الى 24 في المئة على أموال الاستثمارات التي تدفقت بشكل عارم على الولاياتالمتحدة وعلى مدى عامين تقريباً لتستعمل في تطوير الحياة العلمية والاقتصادية. والواقع أن النهضة العلمية والاجتماعية والعمرانية والإنسانية في الولاياتالمتحدة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي قد أخذت اتجاهاً مذهلاً، إيجابياته تفوق كثيراً سلبياته، إذ وجدنا القرى الكبيرة وأحياناً الصغيرة في أطراف الولاياتالمتحدة تنمو في شكل مذهل لتصبح مدناً كبيرة وفي طليعتها (هيوستن) في تكساس التي أصبحت رابع مدينة كبرى في الولاياتالمتحدة بعد أن شاهدتها للمرة الأولى عام 1969 قرية كبيرة. وبالمقياس نفسه تحولت مدينة (لاس فيغاس) وكانت قرية في الصحراء، الى إحدى المدن الكبرى، يقطنها أربعة ملايين نسمة، ويقصدها للسياحة والترفيه عشرات الملايين في العام الواحد. وكذلك مدينة (سان دييغو) التي أصبحت إحدى المدن الكبرى، تعد بالملايين، وفيها أكبر قصر للمؤتمرات يمتد أميالاً، ولوحظ أن هذا النمو السكاني والحضاري قد ازدهر في شكل مذهل في أكثر المدن الأميركية التي تقع في القسم الغربي من الولاياتالمتحدة. ورافق هذا النمو الاجتماعي تخطيط واسع صامت وخفي لامتصاص أهم القدرات العلمية في العالم وتسهيل هجرتها لتساهم في هذا النمو العلمي السريع والنادر الذي شهدته الولاياتالمتحدة في العقود الثلاثة الأخيرة، في شتى الاختصاصات والمهن، ولهذا يندر أن تجد أي مركز علمي طبي من دون عناصر أتت من آسيا والشرق الأوسط وأميركا وآسيا، تحتل مكاناً مميزاً في الواجهة العلمية، وأذكر في أحد المؤتمرات الطبية أن ستة أطباء من أصل ثمانية يقدمون أبحاثهم ودراساتهم كانوا من العنصر الآسيوي أو الشرقي أو من العرق الأصفر. تغلغل «الهيسبانيك» ويعتزز تغلغل العنصر اللاتيني الإسباني من أميركا الوسطى والجنوبية، لهذا نجد اللغة الإسبانية حاضرة في الولايات الجنوبية في المعاملات والدعاية والاتصالات الهاتفية، وامتد هذا التغلغل الى محطات التلفزة والإعلانات الرسمية العامة وهذا ما لا نراه في ولايات الشمال. وقدر عدد المهاجرين غير الشرعيين «الهيسبانيك» بستة ملايين نسمة، وعدد المهاجرين غير الشرعيين القادمين من أطراف العالم الأخرى بخمسة ملايين، وهذا ما يوجه نحو تغلغل العنصر الأجنبي في الحياة الاجتماعية الأميركية، خصوصاً إذا أضفنا الى ذلك ملايين المهاجرين الشرعيين الذين يدخلون الولاياتالمتحدة كل عام. ويوضح التنقل في أطراف الولاياتالمتحدة، في المدن كافة، تغلغل العرق الأصفر والعرق الأسود الى جانب العرق الأبيض وبكثافة غير طبيعية، وفي حفلة للتزلج على الجليد في هيوستن في تكساس كان 80 في المئة من المتزلجين من العنصرين الأصفر والأسود أو من العرق الآسيوي الغامق. ولا أبالغ إذا قلت إن 60 في المئة من سكان (هيوستن) هم من أصل غير أبيض. المظاهر السلبية إزاء هذا التطور الإيجابي العلمي والعمراني والسكاني نصادف تطوراً سلبياً واضحاً، من شذوذ اجتماعي يلفت النظر في كثير من المجالات، مع تزايد العنف المدني وانعدام السلامة في كثير من الولايات، وهي ظاهرة لم تكن موجودة في منتصف القرن الماضي. وانتشار الشذوذ الجنسي، وقد أصبح زواج المثليين مقبولاً في ولايات عدة، فضلاً عن وجود أسواق خاصة لتجارة الجنس في مدن عدة، حيث نقرأ الإعلانات الخاصة بذلك، ولا ننسى انتشار المخدرات وفي طليعتها (الماريوانا) في غرب الولاياتالمتحدة وجنوبها... والسماح بها في بعض القطاعات السكنية ظاهرة انحدار حضاري لا تقبل بها أكثرية الشعب الأميركي. وقد صودر في تشرين الأول (أكتوبر) من هذا العام 143 طناً من الماريوانا بقيمة 435 مليون دولار مستوردة من المكسيك ومتجهة الى كاليفورنيا، حيث يسمح بتعاطي الماريوانا في مدن عدة في الساحل الغربي. أما سلبيات السياسة فظهرت في شكل فاقع منذ أن سيطر (المحافظون الجدد) في أوائل العقد الأخير من القرن المنصرم، على مجرى السياسة في الحقل الدولي، تدعمهم منظمة (إيباك) المسؤولة عن العلاقات الأميركية - الإسرائيلية. وقد لوحظ ازدياد الرفض للسياسة الأميركية الخارجية في أطراف عدة من العالم. وهناك اتجاهان في الأوساط السياسية الأميركية: اتجاه غالبيته (أنكلوساكسونية) يدعو الى الانكفاء الى الداخل كما كانت الولاياتالمتحدة بعيدة عن العالم الخارجي في مطلع القرن الماضي، ويقابله محور لاتيني يرى أن الاختلاط مع العالم في الشكل الحالي يسمح بالمحافظة على النفوذ الأميركي وبهيمنة إيجابية يستفيد منها الشعب الأميركي قاطبة. ومنذ أن تولى باراك أوباما الرئاسة، ظهر فريق يعارض بشدة أن يتولى القيادة مواطن أسود البشرة، هذا العام ظهر (حزب الشاي) الذي هو أقرب الى اليمين ويعمل على تعديل أو بالأحرى تغيير السياسة الأميركية في الخط الاجتماعي وانتهاج سياسة خارجية تخفف من نقمة شعوب العالم على الهيمنة الأميركية. والواقع أن الأخلاق الاجتماعية الأميركية تختلف بين داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، ففي الوقت الذي نرى سلوكاً أخلاقياً مقبولاً ضمن أميركا، نرى أن المبادئ الأميركية الإنسانية غير مطبقة خارج الولاياتالمتحدة، وما نقرأ ونسمع عن السلوك في معتقل غوانتانامو وفي سجن (أبو غريب) في العراق يتعارض كلياً مع ما نلمس من قبول القانون واحترام حقوق الإنسان داخل الولاياتالمتحدة. وكشفت الصحافة الأميركية أخيراً عن تجارب طبية طبقت على المواطنين الأصليين في (غواتيمالا) وكان ذلك في عهد الرئيس ترومان بين عامي 1946 و1948 وأدت الى وفاة الكثير من الأشخاص الذين تمت عليهم التجارب، وكانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون قدمت الاعتذار على هذا التصرف حين تم كشف الفضيحة. * كاتب سوري