لا تنتمي مجازر بغداد الأخيرة الى فرضية الإخفاق الأمني وحدها، وهي بالتأكيد لا تختصر فقط تحت مسمى الصراع السياسي على السلطة، بل إن كل توصيف يتم تعميمه رسمياً او حزبياً او امنياً باعتباره يقف خلف ما حدث ويحدث ابتداء من هجمات وزارة الخارجية 2009 حتى مجزرة كنيسة سيدة النجاة ومذابح الثلثاء الليلية الأخيرة يمكن ان يندرج بدوره في خانة الإسقاط السياسي، وفي اطار الاستثمار المكلف للأزمة الأمنية من جانب الأطراف المتنازعة. من يعشْ داخل بغداد يدرك جيداً ان الحديث المستمر عن اكتمال قدرات القوى الأمنية العراقية مع بدء العد التنازلي لرحيل آخر 50 الف مقاتل اميركي ليس دقيقاً، وان الفترة الممتدة من أواسط عام 2008 الى أواسط 2009 لا يمكن اعتبارها معياراً منطقياً لفرض الأمن والقانون في العراق على رغم انها تكاد تكون فترة ذهبية مهدورة فتحت ابواب الأمل للعراقيين بإمكان استعادة حياتهم وإيقاف نزيف الدم. ومع ان قوات الأمن العراقية قد تكون قادرة نظرياً بعد خبرة سنوات في الميدان على الإمساك الفعلي بكل تفاصيل الملف الأمني، في حال توافرت لها القيادات المهنية والخطط الأمنية الرصينة والإجماع السياسي والشعبي حولها، فإن تحقيق تلك المتطلبات غير متاح في دائرة الفوضى المفاهيمية حول بناء المؤسسات الأمنية ومفهوم الدولة. والأحداث الأخيرة التي شهدتها بغداد تكشف حقائق بالجملة سيكون التغاضي عنها مجدداً مجازفة بمستقبل البلد. ويمكن تأشير ثلاثة مستويات للنقاش في الخلل الأمني أحدها يتعلق بقراءة القدرات الأمنية العراقية والثاني بتحليل طبيعة المجموعات المسلحة العاملة والفاعلة في العراق وارتباطاتها والثالث اختبار مستوى التجاوب السياسي في عملية إعادة بناء الدولة لتحصين المجتمع أمام الاستقطاب العقائدي والمذهبي المدمر. قوة في الميدان مفارقتان ترتبطان بملف قوى الأمن في العراق، إحداهما تتعلق بالمحاولات الأميركية الحثيثة لتكريس الاعتقاد محلياً وإقليمياً ودولياً بأن الولاياتالمتحدة ستترك مع انسحابها منظومة عسكرية وامنية عراقية متكاملة التدريب والتأهيل والتسليح قادرة على حماية البلاد وتوفير الأمن، وكان الخطاب الرسمي العراقي يندرج في هذا الإطار ويلاحق هذه الفرضية من بوابة الاستثمار السياسي للتقدم الأمني. لكن حجم الطعون في القدرات العراقية التي كان الحديث عنها مثار غضب اميركي اصبح اليوم متداولاً على لسان القادة العسكريين الأميركيين أنفسهم الذين يعلنون في شكل يومي مخاوفهم من «حجم الفساد داخل القوات الأمنية» وحاجتها (القوات) الى المزيد من التأهيل والتدريب. والسؤال الجوهري في هذا الجانب هو ان كانت النزعة الانتقادية الاميركية التي رافقت كما يبدو اداء قوات الأمن العراقية منذ إنشائها على ما كشفت أخيراً وثائق «ويكيليكس» باتت تستخدم لأغراض سياسية هي الأخرى، وبقصد التنصل في شكل تدريجي من مسؤولية الأميركيين عن تأسيس هذه القوات وتدريبها وبالتالي مسؤوليتهم عن أي خلل لاحق يرتبط بها؟ ويبدو أن وثائق «ويكيليكس» قد تم استخدامها إعلامياً لأغراض سياسية في العراق، فيما تم إهمال حقيقة ان معظم تلك الوثائق قدمت تصوراً واضحاً عن المسؤولية الأميركية في الخلل الأمني العراقي، بما في ذلك الفشل في المهمة الرئيسة ببناء مؤسسات امنية وعسكرية مستقلة عن التجاذب السياسي، تحظى بسبب تمثيلها المتوازن للعراقيين بتأييد شعبي وتستند الى مخططات عسكرية مهنية والى شبكة استخبارية رصينة لمعالجة الخلل الأمني. وكنتيجة لذلك صار واضحاً ان الأدوار الأمنية في العراق باتت تميل الى استقبال الضربة بدلاً من استباقها، ومحاولة امتصاص نتائجها بدلاً من توفير إمكانات صدها. وعلى المستوى الحكومي كانت عملية الاستثمار السياسي لأي تقدم أمني وإحالته لدعم منصب سياسي بعينه او حزب او توجه، قد تحولت الى آلية تدمير حقيقية لكل فرص حماية المؤسسة الأمنية من الاستقطاب السياسي، فسرعان ما استخدم خصوم الحكومة اللعبة نفسها باستثمار النكسات الأمنية لضرب الاداء السياسي للشخص وللحكومة والحزب، في مقابل ان الاطراف الحكومية مارست اللعبة المزدوجة نفسها عبر الإيحاء المستمر بأن قوى سياسية تعارض الحكومة تحاول إسقاطها من خلال توفير الغطاء لتلك العمليات. وما زالت شواهد التصعيد السياسي مع سورية إبّان هجمات الخارجية العراقية ماثلة لقياس الاستثمار السياسي في الأزمة الأمنية من جميع الأطراف في نطاق غياب الاستراتيجية. والأحداث الأخيرة التي أصابت بغداد ومنها حادثة الكنيسة، كانت امتداداً لأجواء ذلك الاستثمار في النكسة الكارثية بكل المستويات: معارضو الحكومة اعتبروا الأحداث دليلاً على ضعفها وسبباً للحديث عن الحاجة الى تغيير نمط اتخاذ القرار الأمني. الحكومة وأحزابها سارعوا الى التلميح الى مسؤولية المعارضين عن تلك الهجمات كنوع من الضغط السياسي في ملف تشكيل الحكومة الجديدة. والأحزاب التي تطالب بمنحها المزيد من المناصب الأمنية استخدمت الهجمات لتأكيد وجود «خروقات» في الأجهزة الأمنية. ومصطلح «الخروقات» له استخدام مزدوج فهو مرة يدل على خرق «مليشيات» متحدّرة من أحزاب شيعية للمنظومات الأمنية ضمن ما يعرف بعملية «الدمج» ومرة اخرى يستخدم للدلالة على وجود اختراق من القاعدة و«البعثيين» عبر الحصص التي منحت الى الواجهات الحزبية السّنّيّة في القوى الأمنية إبّان الحكومات السابقة. وزارة الأمن الوطني سربت معلومات عن تبليغات كانت قدمتها عن إمكان ضرب الكنائس، وقالت القوى الأمنية إن تلك المعلومات لم تكن دقيقة وهي عامة ولا تحمل توقيتات وأماكن ومصادر. القوى الأمنية نفسها تسابقت في تحويل المسؤولية الى بعضها، فالقيادات الكبيرة المسؤولة عن التخطيط ودراسة التقارير الاستخبارية وتحليلها وضبط التحركات العسكرية ومتابعة الأهداف، اتهمت القيادات الميدانية بالتقصير، وهذه القيادات اتهمت المخططين والمسؤولين عن القرار الأمني ووجهت اتهامات الى صغار الضباط في نقاط التفتيش التي تستخدم اجهزة كشف متفجرات عاطلة من العمل، والضباط الصغار اتهموا جنودهم. تلك الصورة النمطية متكررة وصالحة مع كل حدث أمني كبير، وهي بدورها تعكس طريقة باتت مجربة وناجحة عراقياً لامتصاص الغضب الشعبي وتحويل توجهاته الى المزيد من الصراع السياسي او الى المزيد من التخندق الطائفي. لكن الأصل المهمل في كل هذا الجدل الذي سرعان ما يخمد أمنياً ليتحول الى جدل طائفي وحزبي يتعلق بالعجز الدائم عن انتاج مؤسسة امنية وعسكرية مستقلة عن التجاذب السياسي، متوازنة على المستوى الطائفي والعرقي، وخاضعة لمعايير مهنية وقانونية في العمليات التي تنفذها، ومنتظمة في نطاق عقيدة عسكرية مستقلة بدورها عن العقائد الحزبية الدينية والفئوية. وذلك العجز الذي ينظر اليه سياسياً باعتباره نتاجاً لأخطاء حكومة المالكي او من سبقها او حتى من سيتبعها، لا يخص قرار شخص او حكومة في وضع مركب كالوضع العراقي، بل يتعلق في اخطاء التأسيس التي تتحملها القوات الاميركية قبل سواها، ومن ثم يتحملها الوسط السياسي العراقي عبر تحويله المؤسسة العسكرية والامنية الى ساحة غنائم للاقتسام الحزبي والمذهبي بدلاً من ان تكون مظلة صلبة لحماية وتأطير العملية السياسية. وكما ان العلاج في تحييد المؤسسة العسكرية والأمنية سياسياً لن يتم عبر تحويلها الى نمط مستنسخ عن ارادة رئيس الحكومة او توجهاته عبر استعادة النموذج الديكتاتوري فإن العلاج لن يكون ايضاً بتفتيت تلك المؤسسة مناطقياً او طائفياً او حزبياً لإنشاء جيوش متباينة سياسياً يتبع كل منها لجهة معينة. وقد يرى البعض ان استخدام مصطلح «المؤسسة العسكرية والأمنية» بتوصيف المثنّى بالمفرد من باب الخطأ اللغوي او المفاهيمي، ولكنه توصيف دقيق لواقع الحال عبر الاندماج بين المفهومين على الأرض، وأيضاً الاندماج القانوني الذي فرضه ابتكار منظومة «قيادة عمليات بغداد» و«قيادات عمليات المحافظات» بين اجهزة الجيش والشرطة تحت قيادة موحدة ما ساعد في بداية إطلاقها في عام 2007 على ضبط الانفلات الطائفي، لكنه سرعان ما تحول مع مرور الوقت الى وبال على الشرطة والجيش معاً، وعلى إمكان بناء القدرات الاستخبارية والأمنية. فغياب الحدود المنهجية بين ما هو أمني وما هو عسكري وبين الواجبات العسكرية والواجبات الأمنية، وبين الإمكانات العسكرية والإمكانات الأمنية وايضاً بين مصادر القرار والتخطيط والتنفيذ في الجانبين ساعد على تغييب الهيكلية المؤسساتية، لجهة كونها ليست فقط آلية لانتقال القرار العسكري او الامني من التخطيط الى التنفيذ، وانما لأنها المدخل الوحيد لتحديد المسؤوليات وتدقيق ومعالجة الأخطاء والثغرات. وعندما يطلق التساؤل محلياً واقليمياً ودولياً عن اسباب العجز الأمني العراقي وعن معالجة الثغرات التي باتت نمطية كتلك المتعلقة بطرق واساليب ومنافذ ايصال المسلحين للمتفجرات وتفخيخ السيارات ونقلها ونوع الأهداف المنتخبة ... الخ، تبدو الإجابة المهنية الوحيدة المتاحة بعيداً من الإسقاط السياسي تخص عدم تمكن الهياكل العسكرية (وزارة الدفاع) والأمنية (وزارة الداخلية) والاستخبارية (الأمن الوطني) من انتاج نمط مؤسسي قابل لنقل القرار وتنفيذه وتشخيص الثغرات ذاتياً ومعالجتها، وهذا التوصيف يحيل بالضرورة الى منظومة «قيادة العمليات» التي تجتمع فيها امكانات الوزارات الثلاث وربما تضاف اليها امكانات لأجهزة اخرى كالاستخبارات ومكافحة الإرهاب. ويقول المخضرمون في مجال التخطيط المؤسسي الأمني ان استمرار وجود «قيادات العمليات» لن يسمح على المدى القصير في اي معالجة ذاتية لهيكلية الدفاع والداخلية والاستخبارات وبالتالي فإن الثغرات النمطية لن تجد جهة محددة لتشخيصها ومعالجتها. وكان لافتاً طوال السنوات الماضية ان الخلاف والتنازع المستمر على الصلاحيات وفي مستوى التنصل من المسؤولية عن التراجع الامني بين الاطراف التي تمثل المؤسسات الامنية والعسكرية والاستخبارية كان نتاجاً واقعياً لذلك التداخل والتدافع والاختلاط الذي اصبح غير منتج على مستوى القيادة والتخطيط والهيكلية المؤسساتية، ما يستدعي تبديد الغموض حول واجبات تلك المؤسسات الدستورية المعتمدة عالمياً وفك التشابك في صلاحياتها وادوارها. المسلحون .. مدرسة التكيف لا احد على المستوى الرسمي في العراق ينفي اليوم حقيقة ان المجموعات والمليشيات والتنظيمات المسلحة المختلفة التي تنتشر في العراق من اقصى شماله الى اقصى جنوبه، باتت اكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات على الارض من القوى الامنية العراقية. وهي (المجموعات) في طبيعتها الهيكلية التي تعتمد على عوامل التنظيم السري الخيطي في الغالب وفي ممارساتها التي تستعين التمويه والاختراق اكتسبت تدريجاً إمكانات اختيار التوقيت وتطوير القدرات وسد الثغرات والانتشار وجمع المعلومات وانتخاب الأهداف. ومنهجياً تكون تلك المجموعات مرتبطة خارج الحدود العراقية بثلاثة انواع من العلاقات، احدها مالي وتسليحي والآخر لوجيستي وتعبوي يخص التأمين على القيادات الفوقية في اماكن اكثر أمناً، والثالث توفير سلاح الانتحاريين الضارب. وتالياً أصبحت اكثر قدرة على دراسة الثغرات الامنية الصالحة للاختراق من الاجهزة الامنية العراقية نفسها، وبالتالي اكثر حرية في وضع الخطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الامد حول الاهداف وتوفير الظروف والمواعيد اللازمة لها، وتطوير ادوات ادامة العنف تدريجاً والابتعاد عن النمطية في المعالجة. ف «تنظيم القاعدة» مثالاً ومع ما تعرض له من ضربات موجعة احتفظ بقدرة عالية على التمويه والتكيف خصوصاً بعد مقتل او اعتقال الكثير من قياداته، وتقول المصادر ان التنظيم ترك الاسلوب الخيطي الذي يعود الى مركزية واحدة ولجأ الى ما يعرف ب «المجموعات المنفصلة» بمعنى انه اصبح اليوم يتكون من ثلاثة تنظيمات قيادية منفصلة على الاقل تعمل كل واحدة منها بمعزل عن الاخرى وتلك بدورها تنقسم الى تنظيمات منفصلة اخرى واخرى وهكذا، ما يبرر وجود اكثر من «امير» و «والٍ» على منطقة واحدة، وما يفسر استمرار الاعلان عن اعتقال او قتل مئات من القياديين الكبار في التنظيم ما طرح تساؤلات حول ما اذا كانت القاعدة لا تضم سوى قياديين! وعلى مستوى العمليات لم تعد الهجمات الكبرى بسيارات مفخخة وانتحاريين التي كانت متبعة طوال السنوات الماضية اسلوبه الوحيد في الهجوم، فلجأ التنظيم الى الاغتيالات بكواتم الصوت والعبوات اللاصقة وهو الاسلوب الذي استعاره كما يبدو من المليشيات التي تتهمها واشنطن بالارتباط بإيران والتي كانت بدورها قد طورت عبر السنوات امكاناتها التكيفية. و«القاعدة» كتنظيم يدرك تماماً انه ينمو في اجواء الخلل الاجتماعي ما يجعل اهدافه متوقعة وان كان توقيتاتها مفاجئة. فعملية كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد كانت ممكنة ومتاحة امام التنظيم في عامي 2005 و 2006 لكنها لم تنفذ بالكيفية التي نفذت بها حتى عام 2010 مع الاتفاق على ان اي رادع اخلاقي لم يكن متاحاً في اية مرحلة امام قادة «القاعدة» للجوء الى مثل هكذا عمليات بدليل تنفيذهم هجمات انتحارية في فترات مختلفة ضد الكنائس والمساجد والحسينيات. لكن اختيار توقيت العملية هو العامل الاكثر اهمية من سواه في معادلات «القاعدة» كتنظيم دولي وليس «دولة العراق الاسلامية» كتنظيم محلي، ما بدا واضحاً من خلال الربط المرتبك وغير المعقول لأسباب العملية مع مسألة الأقباط في مصر على وجه التحديد، مع ان السنوات الماضية شهدت الكثير من المساجلات التي عدها البعض في نطاق عداء الغرب للإسلام ولم تقد الى ردود فعل مشابهة. والتوقيت يرتبط بدوره بمفصلية القدرات المتاحة كما يبدو للقاعدة والتنظيمات المسلحة والمليشيات الأخرى في مقابل الاستعدادات الأمنية العراقية، ولهذا لا يمكن افتراض اي عملية عبثية او اعتباطية او وقتية او فردية، ما يفسر ولا ريب الإشكال الذي يبدو دائماً في العراق على المستوى الاستخباري. فالإبلاغ الاستخباري الأمني عن عملية يتم الإعداد لها لضرب هدف ما، هو نتاج لجهد يبدو للوهلة الأولى ناجحاً في زرع المصادر واستقاء المعلومات، لكن العجز عن تحديد التوقيت يشكل معضلة كبرى لا تتم معالجتها وعادة ما تتم معالجتها بطرق غير ناجعة. والمساجلات التي انطلقت بين وزارة الأمن الوطني العراقية والقوى الامنية والعسكرية حول التبليغ عن المعلومة الاستخبارية في حادثة ضرب متطوعين الى وزارة الدفاع قبل شهور ومن ثم في قضية احتجاز رهائن «سيدة النجاة» يطرح خيارات باتت ضرورية لاعتمادها على المستوى الاستخباري تتعلق بفهم نمط تفكير «القاعدة» والمجموعات والمليشيات الاخرى. فتحليل المعلومة الاستخبارية لا بد ان يستعين بنمطين من الاستجابات أحدهما يتعلق بالهدف والتوقيت في نطاق كونهما يندرجان في نطاق قواعد اشتباك محلية، والثاني يخص الهدف والتوقيت باعتبارهما يعبران عن اهداف صراع دولي على غرار التنظيم الدولي ل «القاعدة» او الرسائل الإقليمية عبر المليشيات الاخرى. ومن نافل القول ان نتائج كثيرة ما زالت تدل على سوء فهم امني ورسمي لطبيعة حراك المجموعات المسلحة العراقية والمليشيات خلال عام 2010 تحديداً، ما يشمل اولاً طبيعة المتغيرات على الارض في علاقة «القاعدة» بالمجموعات السّنّيّة المسلحة الاخرى التي كانت سبباً رئيساً في انكفاء التنظيم عامي 2007 و 2008 عبر استجابتها لمشروع «الصحوة» بالانضمام اليه فعلياً او دعمه لوجيستياً ومعنوياً. وثانياً عبر تفسير جدلية العلاقة المتذبذبة بين تنظيمات شيعية مثل «كتائب حزب الله العراق» و«عصائب اهل الحق» و«اليوم الموعود» يعود كل منها منهجياً الى آليات تنظيمية مختلفة، وتحمل بدورها أهدافاً مختلفة ووسائل تنفيذ متباينة وان كانت حالها حال المجموعات السّنّيّة تجتمع تحت شعار عام وفضفاض وقابل للطي والاستخدام والتمويه مثل «مقاومة الاحتلال». ان قراءة واعية لطبيعة ردود فعل المجموعات المسلحة المختلفة حول حادثة «سيدة النجاة» الجنونية وامتناع الكثير من تلك التنظيمات عن التعليق في شأنها، يشير الى المتغيرات التي طرأت على خريطة المسلحين ما بعد عام 2008. أرض الانشقاقات الحديث عن معالجة امنية لمشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية، لا ينتمي الى الحل بقدر انتمائه الى المشكلة ذاتها. وافتراض ان العراق كدولة فشلت بعد 7 سنوات من الاحتلال وصولاً الى رغبة المحتل بالمغادرة وترك الأرض لمصيرها وصراعاتها، في التأسيس لمنظومات تعايش دائمة، هو تلاعب غير منتج بالحقائق. فالجدل في الاسس لا ينبغي ان يكون عقيماً كما هو منذ سبع سنوات، ومحاولة البناء على الوقائع كما هي اليوم افصح بكثير من محاولات التحايل عليها. ومن جملة الوقائع ان الدولة بوجوهها التشريعية والتنفيذية والقضائية والدستورية لم تنجح في ايقاف الشرخ الاجتماعي بين المكونات العراقية بقدر ما ساهمت وهي تدير صراعات حزبية مريرة في تعميق تلك الشروخ. ونقطة الشروع اليوم لم تعد للأسف تتعلق بإعادة بناء الدولة، بل بفهمها وتوصيفها من حيث وصلت العلاقة بين المكونات الاجتماعية، لا من حيث كانت قبل عقود. وعلى هذا الأساس ينبغي عدم إغفال الحديث الصريح عن معنى مصطلح «المكونات» لا الممثليات، ف «المكونات» اذا كانت واقعاً معيشاً لا رجوع عنه يجب التعامل معها ومع حقوقها كاملة غير منقوصة، واذا كانت ظاهرة طارئة يجب التعامل مع مسبباتها وايضاً عبر اعتماد المساواة في الحقوق. وما يجرى هو دمج مدمر في حقيقته بين «المكونات» و«الممثليات» والأخيرة هي نتاج حزبي متغير طرأ واعتاش على فكرة تمثيل المكون الاجتماعي حتى غدا اليوم وكأنه يحاول إلغاء الحد الفاصل بين الحزب السياسي والمكون الاجتماعي ومن ثم تحويل الجدل من الاعتراف ب «المكون» الى الاعتراف ب «الممثل»، ما أسس لأصل ازمة تشكيل الحكومة العراقية المستمرة منذ ثمانية أشهر. والحديث عن خطر استعادة «القاعدة» و «المليشيات» لحواضنها السابقة باعتباره مقدمة لإعادة إنتاج الحرب الأهلية، وكذا إحالة الأزمة الأمنية الى الصراعات السياسية، يندرج بمجمله في نطاق الحرب الدائرة ضمناً حول «التمثيل» و «فقدان التمثيل» ولا يمس الا في نتائجه الوخيمة حقائق التعايش بين «المكونات». والجدل الذي يرتبط ايضاً بمتغيرات الخريطة الإقليمية خارج العراق ونتائج المغامرات الأميركية الرعناء عبر العالم، يجعل الحديث عن «مصالحة وطنية» عراقية، ومن ثم تحميل حكومة عراقية مسؤولية عدم إقرار هذه المصالحة فاقداً الموضوعية لجهة ان المصالحة داخل العراق لم تعد منعزلة عن المصالحات الصعبة خارجه، ما يحيل المصطلح برمته الى البحث عن انتاج «نمط تعايش» وتدوير للخلافات بدلاً من محاولة استنساخ نموذج مواطنة محدد لم يعد وعلى المدى الطويل صالحاً للاستنساخ. هناك محصلة تدحض المخاوف التي يراد لها ان تكون وسيلة للتفريغ السياسي والعاطفي داخل العراق وخارجه عن احتمالات وصول التباينات الاجتماعية العراقية الى مستوى التقسيم. فالتقسيم اذا اريد تعريفه بإنتاج دول حديثة على انقاض الدولة العراقية ليس متاحاً حتى في مخيلة اكثر المتحمسين له، لأسباب اقتصادية واستراتيجية اقليمية ودولية لن تكون مهيئة لهذا الخيار على المدى البعيد، وبالتالي فإن اهمال هذا الخيار بدلاً من اجتراره كفوبيا مرضية، يفتح الباب للبحث عن خيارات جديدة وطبيعية لفرض التعايش. ومع إنهاء الخلل السياسي عبر إعادة فهم «الدولة» من حيث كونها منظومة حقوق وواجبات متساوية تطبق بعدالة على الجميع بصرف النظر عن نمط تنظيمهم الإداري «فيديرالي او مركزي»، «جمهوري او ملكي» ، «رئاسي او برلماني» سيكون متاحاً معالجة الدوافع الآنية وغير العقيدية التي تتيح استمرار العنف كإيجاد فرص العمل للعاطلين وتوفير الخدمات والحياة الكريمة. وضمان ان يعيش مواطنو هذا البلد بكرامة في بلدهم وبكرامة خارجه، ليست مهمة حكومة بقدر كونها اليوم تكاد تكون مهمة الوسط السياسي العراقي المطالب بإنتاج آليات دستورية واضحة للحكم الرشيد المستند الى حكم الشعب لا حكم الطائفة، ودول الإقليم التي تلحظ ولا ريب ان الإرهاب والعنف سيتسلل اليها عاجلاً ام آجلاً اذا استمرت في المساهمة في تحويل العراق الى ملاذ آمن له، وعلى الأسرة الدولية متضامنة التي سيكون عليها مهمة معالجة ما خلفته السياسات الأميركية الكارثية في العراق والمنطقة والعالم.