تبدو الأوضاع في المنطقة، خصوصاً في لبنان والعراق، كأنها تعود إلى المربع الأول. سقط الرهان على التسويات وأنصاف الحلول بما هي بديل من الانفجار والحسم، أو تأجيل لهما في أحسن الأحوال. الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله أطلق الرصاصة الأولى على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لم ينتظر مجلس الوزراء. تجاوز المعالجات الدائرة لملفي شهود الزور والقرار الظني المتوقع صدوره عن المدعي العام دانيال بلمار. وجاءه الرد سريعاً بجملة من المواقف الدولية المنددة، أبرزها من واشنطن ونيويورك. وحملة من الاتهامات لإيران وسورية بتقويض الاستقرار في لبنان ووضع اليد عليه. وتحولت المحكمة ساحة متقدمة في المواجهة الدائرة في المنطقة. لم تنفع كل المحاولات لتحييدها عن هذا الصراع... وليست «حادثة العيادة الطبية» سوى رسالة رمزية تؤشر إلى الآتي الأعظم. منذ أن أعلن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وضع المقاومة في لبنان في خط النار الأول ل «جبهة مقاومة الشعوب» في مواجهة «المشروع الأميركي – الاسرائيلي»، من سورية وفلسطين والعراق إلى تركيا فإيران... بدا واضحاً أنه يمنح سلاحها «شرعية اقليمية» ويقيم له وزناً وازناً في ميزان القوى الإقليمي، ويرفعه عن طاولة البحث والنقاش في الساحة الداخلية اللبنانية. لذلك لم يكن متوقعاً من «حزب الله» غير إطلاق النار على المحكمة الدولية التي رأى إليها من زمن أنها تجاوزت أهدافها وباتت أداة من أدوات السعي إلى تشويه صورته والقضاء على سلاحه بما هو عنصر لتطويع خصومه السياسيين وبسط سيطرته الداخلية. أي أن الحزب نظر وينظر إلى القرار الظني رصاصة الإنطلاق في الهجمة السياسية إقليمياً ودولياً على هذا السلاح. ولا يخفي الحزب مخاوفه من أن يتيح القرار مبررات لإسرائيل من أجل رد الاعتبار إلى جيشها وما خسره في حرب تموز (يوليو) 2006. ولم يتوان القلقون من دور «حزب الله» وموقعه الاستراتيجي في المواجهة، كما أعاد تحديده الرئيس الإيراني، عن تأكيد تمسكهم بالمحكمة. وما دام ان الجميع، بمن فيهم الحزب، يتحدثون عن مضمون القرار الظني وما سيحمله من اتهامات فلا بأس من تحويل القرار سلاحاً لخصوم «المحور الإيراني». واللافت في الجولة الحالية من الصراع على المحكمة هذه «العودة» الأميركية المتجددة إلى لبنان على وقع المواقف المنددة بسورية وإيران، والتي تشبه الحملة التي واكبت إطلاق المفاوضات، غير المباشرة ثم المباشرة، بين الفلسطينيين والاسرائيليين أوائل السنة. فهل مناسبة «العودة» ممارسة الضغوط في لبنان لتسهيل بعض المقايضات في العراق؟ أم أن مقتضيات معركة الانتخابات الأميركية فرضت مثل هذه الحملة الموقتة... وفيها ما فيها من محاولة إرضاء لليمين الاسرائيلي الذي يرفع لواء «المواجهة المصيرية» مع إيران؟ المهم أن انقسام اللبنانيين على المحكمة، وانسداد الأفق أمام أي مخرج سياسي، يذكران بالأجواء التي كانت سائدة عشية 7 أيار (مايو) 2008 وأدت إلى ما أدت إليه. ف «حزب الله» أقفل الباب أمام أي احتمال لحلول وسط في شأن المحكمة. ولا يأبه لزج لبنان بمواجهة مع الأممالمتحدة والمجتمع الدولي. ويرفض مجرد الحديث عن امكان طرح سلاحه في أي مقايضة أو مساومة... يعني ذلك أنه لن يتردد في تكرار تجربة 8 أيار إذا وجد ذلك خياراً لا مفر منه. علماً أن الوضع اليوم مختلف عما كان قبل سنتين. فسورية أعادت شبكة علاقاتها السابقة بالأطراف اللبنانيين، بمن فيهم أولئك الذين ناصبوها العداء إثر اغتيال الرئيس الحريري. وقد أبدى الرئيس بشار الأسد في أكثر من مناسبة حرصه على الحكومة برئاسة الحريري، مقروناً بالدعوة إلى تحرك يفضي في النهاية إلى التخلي عن المحكمة. إنطلاقاً من هذا الوضع المختلف لا يمكن سورية أن تتجاهل اليوم ما يعنيه سكوتها على إطلاق يد الحزب في لبنان، أميركياً ودولياً وعربياً وتركياً. مثلما لا يمكنها أن تتجاهل معنى أن يتحول الحزب المرجعية الأولى في بيروت... إلا إذا كان غرق لبنان في الفوضى مناسبة لعودتها بلا منازع إلى إدارة شؤونه. وهو ما يعيدها قبلة للباحثين عن حل لمستقبل التسوية في المنطقة ومستقبل المقاومة أيضاً. إلا إذا كان الحرص الذي يبديه الرئيس الأسد على الحريري وحكومته هو من باب غسل اليدين سلفاً مما قد يواجهه اللبنانيون قريباً. أما في العراق، فلا بد من انتظار الردود على دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز القيادات العراقية إلى لقاء في الرياض بعد موسم الحج لإيجاد مخرج من الأزمة السياسية برعاية الجامعة العربية. لم تأتِ هذه المبادرة لتأكيد ما هو معروف من فشل لكل المساعي التي بذلت حتى الآن لتشكيل الحكومة. ولم تأتِ لقطع الطريق على الآمال التي علقت على مبادرات «التحالف الكردستاني». فهذه شابها الكثير من التفاؤل وتواجه الكثير من العقبات، وإن لم تخفق بعد. جاءت لتؤكد، في المقام الأول، أن الرياض، ومعها معظم شركائها في الجامعة، لم تسلم ولن تسلم بالهيمنة الإيرانية الكاملة على الإدارة في بغداد. بل هي مستعدة لأداء دور كابح ولاجم. كما لو أن «الكفالة» العربية التي أعطيت لسورية لم تفلح في إقامة نوع من التوازن بين التأثيرين العربي والإيراني في العراق. وتدرك الجمهورية الاسلامية معنى مشاركتها المملكة العربية السعودية في أكثر من ملف، من لبنان إلى باكستان وأفغانستان مروراً بالعراق وفلسطين. وتقيم لذلك حساباً. لذلك لا يمكنها أن تتجاهل مصالح المملكة في الإقليم، خصوصاً العراق، البوابة الأساس لدول الخليج قبل أن يكون «البوابة الشرقية» للعالم العربي. ولا يغيب عن بالها أن الرياض لم تكن مرتاحة يوم جلس الأميركيون والإيرانيون في بغداد قبل سنوات للبحث في مستقبل هذا البلد. وتعرف أيضاً أن المملكة لم تهضم بأي شكل من الأشكال احتلال صدام الكويت، وما كان يمكن أن يمثله من خلل في موازين القوى. وأن ما رفضته يومها لحماية مصالحها الحيوية السياسية والاقتصادية النفطية لا يمكن أن تقبل به اليوم أياً كان الظرف. أي أنها لا يمكن أن تسلم بهذا الطوق الإيراني، من العراق إلى غزة ولبنان... فحدودها الجنوبية مع اليمن. كما أن سياسة الاتصال الهاتفي المطمئن التي يحرص عليها الرئيس أحمدي نجاد مع الملك عبدالله لا تبدد المخاوف مما يرسم للعراق وما يجري في لبنان، وفي فلسطين أيضاً... وحتى في كابول حيث وصلت «المساعدات» إلى الرئيس كارزاي نفسه! وإذا كانت المملكة رأت - بخلاف مصر مثلاً - أن سياسة القطيعة مع سورية أضرت بمصالح البلدين وموقعيهما، وراعت دمشق في خاصرتها اللبنانية، فإنها لا يمكن أن تركن إلى الخلل الراهن في ميزان القوى الاقليمي لمصلحة إيران. لأن نجاح الجمهورية الاسلامية في إحكام سيطرتها على العراق ومن بعده لبنان يسهل عليها الهيمنة على منطقة الخليج بأكملها، ويحولها الدولة الإقليمية الكبرى، واللاعب الرئيس في حل أزماتها وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فضلاً عما يمكن أن تحركه هذه الهيمنة من طموحات مكبوتة للتجمعات السكانية الشيعية في معظم دول مجلس التعاون. و «رسائل» الرياض كثيرة في هذا المجال. وليس آخرها المناورات السعودية - المصرية المشتركة. وصفقة التسلح الكبيرة بين الرياضوواشنطن لرفع قدرات القوات السعودية. يبقى أن المشهد الجديد في لبنان والعراق يسبق المشهد الأميركي الجديد الذي يتوقع أن ترسمه نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس. فإذا صدقت التوقعات - وهو المرجح - فإن ميزان قوى حزبياً جديداً في واشنطن سيترك انعكاسه على السياسة الخارجية. الأمر الذي سيعيد خلط الكثير من الأوراق، وسيدفع معظم اللاعبين في المنطقة إلى إعادة النظر في حساباتهم... وإعادة تموضعهم واصطفافهم. لذلك يبدو أن اللاعبين في المنطقة باتوا يستعجلون حسم ما لم يعد يحتمل تأجيلاً، من بيروت إلى بغداد. كما أن كلا المشهدين يسبقان إعلان قرب استئناف جلسة مفاوضات قد تكون مفصلية بين الجمهورية الاسلامية والدول الست حول الملف النووي منتصف هذا الشهر... وباتت هي الأخرى تحتاج إلى حسم.