خلال الحقب السابقة لعام 1964، وبريادة القطاع الخاص، نمت في العراق صناعات حديثة في قطاعات الغزل والنسيج والسجائر والطوب وطحين الحبوب والزيوت النباتية والأحذية والجلود والمشروبات الغازية وتعبئة التمور وحلج الأقطان والإسمنت والمعادن. وكان بعض الصناعيين من مالكي الأصول التجارية أخذوا بتحويل أصولهم تلك باتجاه الاستثمار الصناعي، على رغم محدودية الحوافز الحمائية للاستثمار هناك، إذ ركَزت سياسة التنمية الصناعية حينذاك على تأمين تمويلات طويلة الأمد من خلال المصرف الصناعي وتشغيلية عبر المصارف التجارية. أما الدولة فكرَست معظم استثماراتها لإنشاء البنى التحتية. ومما ساعدها في ذلك الطفرة الأولى لعائدات البترول بعد عام 1952 والقرار الحصيف بتخصيص 70 في المئة من هذه العائدات لمجلس الإعمار. وجاءت ثورة تموز (يوليو) 1958 بالعديد من التغييرات، وكان لتعيين الصناعي محمد حديد وزيراً للمال، إضافة إلى وجود اقتصاديين لامعين في مواقع أساسية في وزارتي الاقتصاد والتخطيط، دور ملحوظ، فتعَززت سياسات الحماية المشجعة للاستثمار الصناعي. وأسهمت استثمارات الدولة بين عامي 1959 و1962 بإنشاء مصانع مهمة، كمصنع الأدوية في سامراء ومصنع الزجاج في الرمادي، كما مهَدت لإنشاء صناعات هندسية في الإسكندرية وغيرها. وكان النمو الصناعي يتسارع آنئذ، فوصلت مساهمة القطاع الصناعي التحويلي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 8.4 في المئة عام 1962 ما وعد بقرب انطلاق تنمية صناعية جادة مستندة إلى تعاضد القطاعين العام والخاص وفي ظلِ إدارة حكومية لم تتسم بتفشٍ للفساد. وجاء التأميم المبستر عام 1964 ليدفع بإجراءاته المؤدلجة رأس المال الوطني إلى أول هجراته المؤثِرة سلباً في تنمية الاقتصاد. وسُلِّمت الإدارات الصناعية إلى بيروقراطيين لم يملك كثيرون منهم حوافز كافية للمحافظة على كفاية الإنتاج عبر خفض التكاليف وتطوير النوعية. ولما كانت الدولة ضمنت الربح للمنشآت الصناعية من خلال تحديد الأسعار باعتماد متوسط التكلفة زائداً هامش الربح وعبر تنظيِمها للاستيراد كذلك، أوهنت حوافز المنافسة، ما حجّم تطوير الإنتاجية والكفاية الضروريتين لاستدامة النمو الصناعي من دون اعتماد غير مبرّر على الدعم المالي الحكومي. وفيما أصبحت موازنة الدولة وإجراءات التسعير هذه ضامنة لاستدامة الإنتاج، أصبح القطاع الصناعي معتمداً على إجراءات الدولة من دون آلية دينامية لتمويل التراكم الرأسمالي، ما أضعف مرونة الإنتاج بتدهور القدرة على تمويل الاستثمار من دون تمويل الموازنة العامة. وكان هذا هو حال كثير من الصناعات المدنية التي توسعت أو أُنشأت بتمويل حكومي خلال السبعينات والصناعات العسكرية المنشأة في الثمانينات كذلك. وجاء الحظر الاقتصادي خلال التسعينات إعصاراً مدمِراً، إذ كانت القدرات الإنتاجية الذاتية تزعزعت، فلما قيِدت الاستيراد لجان نزع السلاح، لم تميز هذه الأخيرة، وفي شكل متعمِد، بين متطلبات الاقتصاد المدني ومعامل التصنيع العسكري. وبذلك أوهنت كفاية الصناعة وتنافسيتها في شكل كبير. وباحتلال العراق عام 2003، والذي أعقبته أحداث التدمير المتعمد والنهب الفوضوي في آن، كان القطاع الصناعي في أدنى قدراته التنافسية. حينئذ، جاءت قرارات الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في أيلول (سبتمبر) 2003 بإلغاء الحواجز الجمركية قشة أخرى قاصمة لظهر الصناعة التي رغب «المحافظون الجدد» في تخصيصها في مقابل مبالغ زهيدة. وأُجِّل التخصيص بسبب محاذير التسريح الواسع لفوائض الأيدي العاملة ولعزوف المستثمرين نتيجة الأمن المضطرب، ولتعرض كثير من المنشآت للتدمير أو النهب، ما فاقم عنصر المخاطرة وخفض المردود للمستثمرين المحتملين. ولهذا، عادت معظم الصناعات المرهقة في ديون متراكمة ومشاكل تشغيلية إلى أحضان الدعم المالي الحكومي وهي تعاني من تقادم تكنولوجي بالغ ودمار للآلات والمعدات والأبنية وانقطاع للكهرباء وفائض كبير في العاملين وعدم إنباطهم وظيفياً. وانقضت سنوات من ضمن هذا السياق المفاقم للخسائر المالية والاجتماعية من دون قرارات حاسمة، في حين استمرت أبواب الاستيراد مشرعة ليعزف المستهلكون عن المنتجات الوطنية، الأمر الذي أضاف إلى اختناقات التشغيل المتعثر أزمة قصور في الطلب على السلع المحلية. وساهمت عوامل متعددة في أزمة الصناعة وانهيارها، فهذا القطاع الذي كان واعداً في الخمسينات والستينات، ومتوسعاً نحو صناعات الأسمدة والبتروكيماويات والغاز والحديد والصلب بعدذاك، أمسى مهيض الجناح يبحث عن مستثمرين من القطاع الخاص في ما تبقى من صناعات واعدة. ويتمثَل ضعف القطاع الصناعي بانهيار مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.5 في المئة لا غير عام 2008. وفي السنوات الأخيرة، يُعتقد بأن تعاظم تأثير اللوبي التجاري ساهم في تأخير إصدار قانون التعرفة الجمركية المعدّل فاستمرت التعرفة هزيلة عند خمسة في المئة. شرعت الحكومة الحالية في إنشاء مناطق صناعية وأعادت تأهيل صناعات معينة، كما فعّلت دور المصرف الصناعي بعد جمود. ويفاقم التلكؤ في توسيع القدرات الفنية والعملية لجهاز القياس والسيطرة النوعية من تأثيرات الاستيراد المنافس في المنتج الوطني. كذلك يوهن ضعف الحماية التجارية الموقف التفاوضي للعراق عند توجهه لاكتساب عضوية منظمة التجارة العالمية، خصوصاً ان موقعه الصناعي التنافسي بالغ الهشاشة، الأمر الذي سيضعف قدرات المفاوض العراقي في تقييد المنافسة الأجنبية وحماية الإنتاج. وفي ظل هذا الموقف الضعيف، يُبحث في تخصيص الأصول الصناعية. لكن يلزم التحوط هنا من احتمالات دخول قانصي فرص الربح السريع تحت لافتة الاستثمار كما فعلوا في بلدان أخرى. وقد يتضح ان الهم الأول لهؤلاء هو الاستحواذ على الأصول الصناعية بأثمان تقل كثيراً عن قيم مجموع الأصول المشتراة ليعود المشتري إلى بيع الأراضي والمباني والآلات ووسائط النقل كلاً على حدة، ولتنتهي بذلك قدرات صناعية لا تزال تحمل بعض الوعود. ومع الارتفاع السريع لأسعار الأراضي الحضرية في المدن الكبرى وبالتالي أسعار أراضي المنشآت الصناعية التي ستُعرض للبيع، ستزداد أيضاً احتمالات دخول الاستثمار القانص لفرص الربح السريع للاستحواذ على أراض مرتفعة القيمة، مقارنة بالاستثمار الجاد الموسع لطاقات الإنتاج وكفايته التكنولوجية. * كاتب متخصِص في الشؤون الاقتصادية